عندما بدأت الثورة الصناعية فى أوروبا كانت صناعة النسيج هى أبرز الصناعات التى أنتجتها هذه الثورة الفاصلة فى التاريخ الحديث.
وفى هذه الأثناء كانت فرنسا وإنجلترا فى حالة تنافس محموم بغية النهوض بصناعة المنسوجات ومن ثم الاستغناء عن الاستيراد من الهند وحواضر الشرق الأوسط مثل القاهرة وحلب وديار بكر والانتقال لمرحلة الإنتاج والاكتفاء الذاتى والتصدير، لكن هذا الطموح كان يواجه عقبة كبيرة تتمثل فى التقنيات المصاحبة لعملية التصنيع، وتحديداً عملية صباغة المنسوجات، فكانت فرنسا تضطر لإرسال أقمشتها لتُصبغ فى هولندا ثم تكتمل عملية تصنيعها فى فرنسا من جديد.
وبدأ الفرنسيون يفكرون فى إيجاد طريقة اقتصادية لتلوين أقمشتهم ومنسوجاتهم تسهم فى النهضة بمشروعهم الصناعى الناشئ، غير أن محاولاتهم لم تُكلل بالنجاح، فبدأوا جولة جديدة من التجسس الصناعى بعدما تواترت لديهم معلومات تؤكد أن أفضل ما يمكنهم فعله هو اقتباس التقنية المصرية فى تبييض وصبغ الأقمشة والمنسوجات، وقد كانت مصر وصُناعها لديهم خبرة متراكمة عبر الزمن فى معالجة الألوان واستنباط الجديد والطريف والمركَّب منها بدراية هائلة وخبرة تناقلوها من عصور ما قبل الأسرات.
وفى الوقت الذى كانت تتطلع فيه فرنسا لطرف خيط يسهم فى نجاح صبغ وتبييض الأقمشة كانت القاهرة تعج بطوائف الصُناع المهرة المدربين على التقنيات التقليدية فى صبغ المنسوجات، فكانت هناك طائفة الصباغين بالأحمر وطائفة البصمجية الموكلين بوضع الألوان الزاهية المتداخلة على الأقمشة.
اقتضى نظام طوائف الحرفيين آنذاك أن تكون الطائفة مغلقة على نفسها ولا تسمح إطلاقاً بوجود دخلاء على المهنة ومن يمارس المهنة دون تصريح من شيخ الطائفة يُعرِّض نفسه للمساءلة القانونية أمام المحاكم الشرعية، والتى كانت تحكم بالقانون الداخلى لكل طائفة.
ولضمان الجودة ومنع التنافسية كانت أسرار الصنعة حكراً على كل طائفة، وهو ما ضمن ربحاً كبيراً للطائفة التى لا ينافسها أحد وتحتكر أسرار الصنعة، غير أن القائمين على صناعة النسيج فى فرنسا كانوا يتطلعون لإنجاح تجربتهم الخاصة بصنع النسيج، وكانت الحلقة المفقودة التى يبحثون عنها هى تقنية إنتاج ملح النوشادر، وهى مادة كيميائية يتم إنتاجها بطريقة تقليدية وتسهم فى ثبات الألوان واستمرارها زاهية فترة طويلة بعد الصباغة والاستعمال، وهنا قرر الفرنسيون استخدام مهارتهم فى التجسس الصناعى فأرسلوا قناصل وتجاراً ورهباناً بهدف جمع معلومات عن تقنية صناعة ملح النوشادر، وجاء النجاح واقتناص المعلومات على يد طبيب يُدعى جرانجر تنكَّر فى زى رجل عربى وبدأ التجول حول ورش صناعة هذه المادة الكيمائية بغية تحصيل أى معلومات تكشف له سر الصنعة، إلى أن سنحت الفرصة عندما فقد الوعى فجأة أحد صُناع ورش ملح النوشادر، وهنا اندس جرانجر وسط الجموع التى تحاول إسعاف الرجل ونجح فى علاجه بحكم عمله كطبيب، وأثناء جلسة ودية أعقبت إسعاف المريض انحلت عقدة لسان معلمى الملح وتباسطوا مع الخواجة جرانجر وشرحوا له من الألف للياء طريقتهم السرية فى تحضير ملح النوشادر، وبسرعة البرق أرسل جرانجر ما تراكم لديه من معلومات ثمينة لفرنسا فاعتبروا ذلك نصراً كبيراً وعلقوا: «الناجحون هم الذين لا تشيع أسرارهم»، وهكذا فقدت مصر أحد أوجه تميزها وتفردها بفعل خديعة أتقنها الخواجة جرانجر.
هذه الواقعة وغيرها من وقائع كثيرة تُعد حلقة من حلقات ممتدة لسياسات الاستيلاء الثقافى التى شملت سرقة الأفكار والآثار، وتؤكد أن لحظة الاصطدام بالغرب وقت الحملة الفرنسية ما هى إلا لحظة مهمة ولكنها ليست فريدة.
* كاتب وباحث فى الآثار المصرية
0 تعليق