في سياق اقتصادي يتسم باعتماد متزايد للمالية العامة على المداخيل الضريبية، برزت المؤسسات والمقاولات العمومية كركيزة أساسية للاقتصاد الوطني؛ فخلال السنة الماضية، بلغت المساهمات الجبائية لهذه الوحدات في ميزانية الدولة أكثر من 26.6 مليار درهم من خلال الضريبة على الشركات والضريبة على الدخل والضريبة على القيمة المضافة. يضاف إلى هذا المبلغ، مساهمة التضامن الاجتماعي المترتبة عن الأرباح والدخول، المقدرة بحوالي 1.7 مليار درهم، ليصل إجمالي مساهمة المنشآت المذكورة في تمويل النفقات العمومية إلى حوالي 28.3 مليار درهم.
تعكس هذه الأرقام، المنشورة في التقرير حول المؤسسات والمقاولات العمومية المرفق بمشروع قانون المالية لعام 2025، قيد المناقشة حاليا في مجلس النواب، الدور المركزي لهذه المؤسسات في تمويل الاقتصاد الوطني، إذ أكد التقرير أن المساهمات الضريبية للمنشآت العمومية ارتفعت من 20.1 مليار درهم في 2020 إلى 26.6 مليار درهم في 2023، أي بزيادة تجاوزت 30 في المائة خلال ثلاث سنوات، وهو ما يمثل 16 في المائة من المداخيل العامة للدولة من هذه الضرائب، ويرسخ مكانة الوحدات المذكورة في موارد الميزانية العامة.
ولا تقتصر المساهمات الضريبية للمؤسسات العمومية على دعم نفقات الدولة، بل تتعداها إلى لعب دور استراتيجي في زيادة القدرة على الاستثمار العمومي، إذ تخطط الدولة لميزانية استثمارية قدرها 340 مليار درهم خلال السنة المقبلة، موجهة لتمويل مشاريع كبيرة في البنية التحتية، خصوصا التعليم والصحة، وقطاعات استراتيجية أخرى. ومع استعداد المغرب للاستثمارات لتنظيم كأس العالم 2030، تصبح مساهمة المنشآت العامة أكثر أهمية، بفضل أدائها المعزز من خلال حكامة أفضل ونظام ضريبي قوي، حيث ستستمر هذه المؤسسات في دعم المالية العمومية، ما يحقق توازنا ماليا مستقرا.
“المونديال” سيعزز موارد ضريبة القيمة المضافة
من بين الضرائب الرئيسية الثلاث، شهدت الضريبة على القيمة المضافة زيادة أكثر وضوحا، إذ ارتفعت من 9.1 مليارات درهم في 2020 إلى 15.1 مليار درهم في 2023، ويعكس هذا النمو تحسن تدبير التدفقات المالية للمؤسسات والمقاولات العمومية، وتحديث ممارساتها المحاسبية، ما يظهر حجم النشاط الاقتصادي لهذه المؤسسات العمومية وقدرتها على تحصيل ضريبة القيمة المضافة وسدادها، علما أنها شكلت موضوع برنامج إصلاحي حكومي واسع، بالتنسيق مع مصالح المديرية العامة للضرائب.
وأوضح محمد رضواني، خبير محاسب باحث في المالية العامة، في تصريح لهسبريس، أن هذه الزيادة في مساهمات الضريبة على القيمة المضافة تعكس قوة متزايدة للأداء المالي للمؤسسات والمقاولات العمومية، قائلا إن “ارتفاع المساهمات الجبائية، خاصة المتعلقة بضريبة القيمة المضافة، يعكس جهودا مهمة من قبل المنشآت العمومية للامتثال للالتزامات الضريبية وإدارة عملياتها المالية بشكل أكثر فعالية. وهذا التطور الإيجابي يمثل علامة على النضج الاقتصادي والضريبي”، مشيرا في السياق ذاته إلى أن دينامية النمو في عائدات الضريبة المذكورة، أساسية لتمويل الاستثمارات العامة، التي من المتوقع أن تصل إلى مستوى قياسي يبلغ 340 مليار درهم خلال السنة المقبلة.
ونبه رضواني إلى التأثير الاقتصادي لـ”مونديال 2030″، الذي يرتقب أن يساهم في زيادة مساهمات ضريبة القيمة المضافة بشكل كبير، ما يعزز المداخيل الجبائية لصالح الدولة، موضحا أن “تنظيم كأس العالم قد يحفز الاقتصاد الوطني ككل، خصوصا من خلال قطاعي السياحة والبنية التحتية، حيث تلعب المؤسسات والمقاولات العمومية دورا حيويا في هذه الدينامية، التي من شأنها أن تزيد من العائدات الضريبية، خاصة ضريبة القيمة المضافة وضريبة الشركات، بفضل ارتفاع النشاط الاقتصادي”، مشددا على أن “المونديال سيخلق رواجا اقتصاديا واسعا ستستفيد منه الوحدات العمومية، من خلال الزيادة المتوقعة في تدفق السياح والمعاملات التجارية، ما يعزز توقعات ارتفاع موارد ضريبة القيمة المضافة”.
استراتيجية استثمارية تدعمها قاعدة ضريبية
تتمتع المؤسسات والمقاولات العمومية اليوم بموقع أساسي في النظام الضريبي الوطني، فمن خلال مساهماتها الكبيرة، خاصة في إطار ضريبة القيمة المضافة، توفر تمويلا مستقرا للنفقات العامة، وتساهم في الاستقرار المالي للدولة. كما أن دورها الاستراتيجي يمتد إلى تنفيذ الاستثمارات العامة، التي تعد عاملا رئيسيا في تطوير ونمو المملكة، وسيتيح الارتفاع المتوقع لهذه الاستثمارات، بفضل قاعدة ضريبية عامة قوية، إمكانية تسريع وتيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية، باعتبار أن الاستثمار العمومي هو محرك أساسي لنمو الاقتصاد والمنشآت العمومية، من خلال مساهماتها الكبيرة في المداخيل الضريبية.
وبالنسبة إلى محسن زريف، مستشار في مكتب للدراسات خبير في القوانين الضريبية، فإن الاستقرار في مساهمات ضريبة الدخل وضريبة الشركات، أمر إيجابي للاقتصاد الوطني، معتبرا المؤسسات والمقاولات العمومية مصدرا مستقرا ومتوقعا لمداخيل الدولة، ما يسمح بالحفاظ على قاعدة ضريبية صلبة حتى في مواجهة التحديات الاقتصادية، موضحا أن استقرار الضريبيتين المذكورتين “يسمح أيضا بالتخطيط للعائدات الجبائية بدرجة معينة من الأمان، ما يضمن استقرار المالية العمومية”، مشيرا في سياق آخر إلى أهمية التأثير الضريبي لكأس العالم 2030، إذ يتجاوز العائدات المباشرة، وسيعزز جاذبية المملكة ويزيد من قيمة أصولها الاقتصادية.
وأوضح زريف، في تصريح لهسبريس، أن “الاستثمار في بنية تحتية مستدامة يمكن أن يجذب المزيد من الاستثمارات الأجنبية والشراكات الدولية إلى المغرب، ما سيزيد من القاعدة الضريبية ومداخيل الدولة، حتى بعد انتهاء الحدث”، مؤكدا أن الاستثمار في المشاريع المتعلقة بـ”مونديال 2030” سيخلق فرص شغل مؤقتة ودائمة للمغاربة، “فالأعمال المرتبطة بالبنية التحتية والصيانة والخدمات والضيافة ستتيح المجال لرفع معدلات التشغيل، وبالتالي دعم قاعدة دافعي الضرائب في المملكة، ما سيعزز موارد الدولة بشكل مستدام”، مشددا على أن “إنشاء وتوسيع شركات أجنبية ومحلية، سيزيد الإقبال على اليد العاملة المحلية،مبما سينعكس إيجابا على المداخيل الضريبية، خصوصا الضريبة على الدخل والضرائب المرتبطة بالأنشطة التجارية”.
0 تعليق