في زمن تسارعت فيه وتيرة المعلومات، وارتفعت فيه أصوات النقد الهدام أكثر من أصوات البناء، أصبح من السهل أن تتحول أي مؤسسة وطنية إلى هدف سهل في مرمى سهام التشهير والتجني، خاصة إذا كانت تلك المؤسسة ترتدي لون الوطن وتحلق باسمه في السماء.
وفي القلب من كل هذا، تقف الخطوط الجوية الكويتية، «الناقل الأزرق»، تتعرض لحملة غير مبررة من التشويه والهجوم، حملة تفتقد إلى العدل، وتغفل السياق التاريخي، وتتناسى التحديات المتراكمة التي واجهتها هذه الشركة الوطنية التي ما انحنت، بل صمدت، ثم نهضت، وها هي تحاول أن تستعيد بريقها من جديد.
الخطوط الجوية الكويتية لم تكن شركة عادية. إنها مؤسسة سيادية، ذاكرة وطنية، وسفير دائم للكويت في مطارات العالم. منذ تأسيسها وهي تحلق في سماء الخليج والعالم، ناشرة اسم الكويت وشعارها على كل مدرج ومهبط.
لكن هذا الناقل لم يسلم من العواصف. فقد مرت عليه سنوات صعبة، من مجالس إدارة لم توفه حقه، إلى قرارات إدارية خاطئة أثقلت كاهله، ثم جاءت كارثة الغزو العراقي الغاشم التي لم تترك شيئا إلا وتركته حطاما، بما في ذلك أسطول الطائرات الذي تم تدميره وسرقته بالكامل.
ومع ذلك، لم تستسلم «الكويتية»، بل عادت وأعادت بناء أسطولها من جديد.قاومت، وتشبثت، وحاولت أن تنهض رغم المعوقات الكثيرة، المالية والإدارية والتشريعية. وها نحن نراها اليوم في مرحلة جديدة من مراحل التحول، بقيادة وطنية واعية تعرف ما تريد وتسعى لأن تعيد للشركة مكانتها الإقليمية والدولية.
اليوم، تقود الشركة كوكبة من الكفاءات الوطنية وعلى رأسهم الكابتن عبد المحسن الفقعان، الذي أتى إلى المنصب حاملا معه رؤية مختلفة وإرادة صلبة، لا تستند إلى الشعارات، بل إلى العمل الميداني وخطط التحول الواقعية.
إلى جانبه يقف مجلس إدارة متجانس يضع نصب عينيه هدفا واحدا: استعادة هيبة «الكويتية»، وتحسين خدماتها، وضبط إدارتها، وتجديد أسطولها، والعمل على فتح آفاق جديدة في سوق الطيران العالمي، رغم التحديات الكثيرة الموروثة.
من الظلم أن نحاسب هؤلاء على تركة ثقيلة لم يصنعوها، ومن القسوة أن نحاسب مؤسسة تنهض من ركام سنوات من الإهمال وكأنها ولدت اليوم.
من المؤسف أن البعض يصر على المقارنة بين الخطوط الجوية الكويتية وبين شركات عملاقة كطيران الإمارات أو القطرية، دون أن يأخذ في الحسبان حجم الدعم الحكومي المهول الذي تتلقاه تلك الشركات، أو الأساطيل التي تفوق المئة وأربعين طائرة، في حين أن الكويتية، بكل ما فيها، لا تمتلك أكثر من 24 طائرة فقط.
لكن رغم ذلك، فبشهادة المسافرين - كويتيين وغير كويتيين - فإن تجربة السفر مع «الكويتية» تبقى من الأفضل، سواء من ناحية جودة الطائرات، أو كفاءة الطيارين، أو حتى الاحترافية في الخدمات الأرضية، والتي يشرف عليها شباب كويتيون نفتخر بهم جميعا.
لا يمكن أن نتحدث عن تقدم «الكويتية» دون أن نرفع القبعة لفريق الخدمات الأرضية وكل مجموعة T4 بمن فيهم من شباب يديرون الأمور بشكل ممتاز، هؤلاء يمثلون صورة مشرفة لجيل جديد يعمل بصمت ويؤمن بأن خدمة الوطن لا تكون بالكلام، بل بالإنجاز في الميدان.
مطار T4 بات اليوم مفخرة وطنية، ليس بسبب التصميم فقط، بل بسبب من يديرون عملياته من كفاءات شابة تعرف قيمة المؤسسة التي تمثلها.
وعلى متن الطائرات، ترى الاحتراف في وجوه الطواقم، في حسن الاستقبال، وجودة الطعام، والخدمة المتقنة التي قد لا تجد مثيلا لها في شركات أخرى أكبر حجما وأضخم ميزانية. فهل تستحق الكويتية بعد كل هذا أن تجلد في العلن وتهان دون وجه حق؟
الاتفاق مع طيران الإمارات: خطوة ذكية لا تستحق الهجوم
الاتفاق الأخير مع طيران الإمارات، والذي هاجمه البعض وكأنه بيع للكويتية، هو في الحقيقة خطوة استراتيجية تحاكي عقلية السوق الذكي. فالخطوط الكويتية لا تسير رحلات إلى كل الوجهات، وطيران الإمارات توفر تلك الوجهات، والاتفاق بين الطرفين يضمن عمولات ومكاسب للشركة الكويتية من التذاكر التي تباع ضمن هذا التعاون.
بل إن هذا التعاون يحقق فائدة أكبر: تعزيز شبكة السفر للمواطن الكويتي، دون تحميل الكويتية أعباء تشغيل وجهات غير مربحة حاليا. فهل نرفض التعاون لمجرد العناد؟ وهل نهاجم كل مبادرة دون أن نقرأ تفاصيلها؟
من المهم أن نشير إلى أن الكويتية تأثرت بشكل سلبي بعملية الخصخصة، حيث خرجت منها كفاءات وطنية كثيرة لم يتم تعويضها، ولم يعد تأهيل الصف الثاني والثالث، مما خلق فجوة كبيرة في الخبرة والاستمرارية.
كما أن بعض الإدارات السابقة ارتكبت أخطاء واضحة في ملفات صفقات الطائرات، وعدلت قراراتها أكثر من مرة، مما أربك عمليات التشغيل وأثر على الجدول الزمني لتسليم الطائرات الجديدة.
على عكس الكثير من شركات الطيران في المنطقة، فإن الكويتية تعتمد على تمويل ذاتي من أرباحها، دون دعم حكومي مباشر. وهذا وحده يفسر حجم التحديات التي تواجهها مقارنة بشركات تحصل على تمويلات سنوية بالمليارات.
ومع كل هذا، لا تزال الخطوط الكويتية تحتفظ بسجل ناصع في مجال السلامة، دون حوادث تذكر، وهذا عنصر تنافسي مهم جدا في صناعة الطيران، ويعكس مدى التزام الشركة بمعايير السلامة الصارمة.
لا أحد ينكر أن التدخلات السياسية كانت في فترة من الفترات من أبرز أسباب تعثر الشركة. لكن اليوم، ومع توجيهات القيادة السياسية الجديدة، ومع وجود نية واضحة للإصلاح والتطوير، فإن الطريق أصبح مفتوحا نحو استعادة العافية، شرط أن نساند هذا التوجه ونبتعد عن حملات الإحباط.
نحن في عهد جديد، عهد التصحيح بقيادة سيدي صاحب السمو الشيخ مشعل الأحمد الصباح، وسمو ولي عهده الأمين. وهو عهد يعيد الاعتبار لكل مؤسسات الدولة، ويضع الأسس الحقيقية للنهضة والتطوير.
وفي هذا العهد، لا بد أن نكون سندا للمؤسسات الوطنية، وأن نمارس النقد حين يجب، ولكن بعقل وحكمة، لا بنية التشهير. نريد النقد الذي يبني ولا يهدم، الذي يصحح ولا يفضح، الذي يرشد ولا يسيء.
وأقولها بملئ الفم، إن الخطوط الجوية الكويتية ليست مجرد شركة طيران، بل هي رمز سيادي، هوية وطنية، راية ترفرف في السماء باسم الكويت.
فلتكن أصواتنا دعما لا تجريحا، حافزا لا معول هدم.
ولنعلم أن النقد البناء يحمي المؤسسات، أما التشهير المجاني فهو طعنة في خاصرة الوطن.
الخطوط الجوية الكويتية… تحلق بنا لا فقط في السماء، بل في ذاكرة وطن اسمه الكويت.
د/يوسف العميري
للمزيد تابع
خليجيون نيوز على: فيسبوك | إكس | يوتيوب | إنستغرام | تيك توك
0 تعليق