حب بين الكواكب .. أسرار تفاهم الرجال والنساء بين المريخ والزهرة

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

حُبٌّ بين الكواكب

حين يغدُو الكتاب أكثر من مجرد صفحات تُقرأ، ويتحول إلى أداة لفهم الذات والآخر، ندرك أننا أمام عمل يلامس قضايا الإنسان في بعدها العاطفي والنفسي. من هذا المنظور يكتسب كتاب “الرجال من المريخ والنساء من الزهرة ” لجون غراي

John Gray : Les hommes viennent de Mars et les femmes de vénus

أهمية مضاعفة، إذ لا يقدم أطروحات جاهزة بقدر ما يفتح المجال لتفكيك التّعقيد الذي يطبع العلاقة بين الرّجل والمرأة، ويعيد التفكير في مفاهيم التواصل والتباين والانتماء من داخل نسق وجداني مشحون بالتوقعات وسُوء الفهم. إنه كتاب لا يُقرأ لمجرد الاطلاع، وإنما يُستأنس به بوصفه أفقا تأويليا يساعدنا على إدراك ما تعجز اللغة اليومية عن قوله.

كتاب غرايْ من بين الكُتب التي انشغلتُ بقراءتها منذ أيام، ويحمل، في تقديري، تأملات جديرة بالاعتبار حول العلاقات الإنسانية، بالرغم من أنه لا يُقَدِّم إجابات جاهزة، وإنما يفتح مسالك للتفكير في قيم الإصغاء، والاختلاف، والمودة بوصفها مرتكزات جوهرية لكل تواصل حقيقي. ولعل ما يدفعني إلى تقاسم بعض من أفكاره مع القارئ هو اقتناعي بأن هذا النوع من الكتب يعيد ترتيب أسئلتنا حول ما نظنه بديهيًا في علاقتنا بالآخر، إذ يُمهّد للتفكير في العلاقة الإنسانية باعتبارها مشروعًا يتطلب وعيًا متجددًا، لا مجرّد تجاوب عاطفي عابر. هكذا يحرّك فينا هذا الطرح حسّ التساؤل بشأن مرتكزات التفاهم الإنساني، مقترحًا أن جوهر الاحتواء لا يتحقق إلا عبر الاعتراف بالاختلاف باعتباره مجالًا خصبًا لإعادة تشييد المعنى المشترك، وإعادة صوغ الذات في انعكاسها داخل مرآة الآخر.

يعرض جون غراي في كتابه لاختلافات التواصل والسلوك بين الرجال والنساء في إطار العلاقات العاطفية اعتمادا على ملاحظاته وبحوثه حول نفسيات كل من الرجل والمرأة. يعرض الكتاب لفكرة تتمثل في أن الاختلاف بين الجنسين يتجاوز الأبعاد البيولوجية ليشمل التصورات وردود الفعل والتوقعات المختلفة التي تؤثر في تلك العلاقات.

تستند أطروحة هذا الكتاب على فكرة محورية مفادها أن الرجال والنساء “ينحدرون من كواكب مختلفة”، إذ يُبرمَج كل منهما بشكل فطري على استيعاب العالم والتفاعل معه بطرق تختلف بشكل جذري. لا يقتصر هذا الاختلاف على السلوكيات والسمات الشخصية فقط، وإنما يتعداه ليشمل طريقة فهم كل جنس للمعلومات العاطفية والاجتماعية، مما يؤدي إلى تنوع كبير في أساليب التفاعل مع المحيط. وبذلك تتشكل تجارب وتصورات متباينة تساهم في رسم معالم الفجوة بين الجنسين في تفاعلهما وفهمهما للعلاقات الإنسانية.

يُصوِّرُ غْراي هذا الاختلاف باعتباره نتاجا لـ”برمجة” فطرية، تُتيح لكل جنس التفاعل مع تحديات الحياة وتجاربها بما يتناسب مع احتياجاته النفسية والعاطفية. على هذا النحو، يتفاعل كل طرف في العلاقة وفقًا لتربيته وتوقعاته الذاتية، مما (قد) يؤدي إلى سوء الفهم إذا لم تُلاحظ هذه الفروقات ويتم التعامل معها بوعي، سواء في التواصل اللفظي أو في السلوكيات غير اللفظية. بناءً على هذا الفهم، يرى غراي أن السبب الرئيس وراء سوء التفاهم في العلاقات هو أن كل جنس يتوقع من الآخر أن يتصرف بنفس الطريقة التي يتصرف بها هو، دون أن يعترف بالاختلافات الجوهرية في الأساليب الفكرية والعاطفية بينهما. تفضي هذه الفجوة في التوقعات إلى التباس في الفهم، إذ يفترض كل طرف ضمنيًا أن الآخر سيستجيب وفق أنماطه الخاصة في الإدراك والتفاعل، مما يسهم في تعميق الإشكالات وتعزيز التوتر في ديناميات التواصل بين الجنسين.

يميل الرجال، في الغالب، إلى التركيز على الإنجاز المهني واعتماد مقاربة مباشرة وعملية في معالجة المشكلات، وهو ما يدفعهم إلى تبني العزلة كآلية للتعامل مع الأزمات، لاسيما في اللحظات المشحونة عاطفيًا أو تحت وطأة الضغوط النفسية. إذ يمثل الانسحاب إلى ما يُشبه “المغارة الرمزية” استراتيجيتهم المفضلة لمواجهة التحديات بصورة فردية، واستعادة توازنهم الداخلي عبر الانكفاء المؤقت على الذات. لا تعني هذه العزلة رفضًا للطرف الآخر، بل هي مجرد استراتيجية شخصية تهدف إلى التعامل مع الصعوبات بعيدًا عن الانفعالات. أما النساء فهن أكثر حساسية تجاه المشاعر، ويملْن إلى الحفاظ على التناغم العاطفي في العلاقات من خلال التفاعل العاطفي مع من حولهن. غير أن هذه الرغبة في التواصل العاطفي كثيرًا ما تُساء قراءتها من قِبل الرجال، الذين يميلون، في حالات عدة، إلى الإصغاء دون المبادرة الفورية إلى تقديم حلول. وهو ما يُفضي إلى نشوء فجوة في الفهم المتبادل، ناجمة عن تباين أنماط التفاعل والتوقعات بين الطرفين.

بتعبير آخر، تسعى النساء، وفق رؤية غْراي، إلى بناء تواصل عاطفي قائم على الصدق في التعبير عن المشاعر، وهو ما يعدّ بالنسبة إليهنّ أساسًا للحفاظ على انسجام العلاقات واستقرارها. مع ذلك، قد يثير هذا النهج التباسًا لدى الرجال الذين يربطون التفاعل العاطفي غالبًا بالحاجة إلى حلول عملية وسريعة. في العديد من المواقف يحاول الرجل التعبير عن قلقه من خلال البحث عن حلول فورية، في حين تفضل المرأة أحيانًا أن تُمنح الفرصة للتعبير والاستماع دون التدخل بهدف الحل العاجل. ومن ثمّ تنشأ فجوة في التوقعات تؤدي إلى صراعات متكررة، خاصة حينما تعبر المرأة عن مشاعرها دون السعي المباشر إلى حل المشكلة، وهو أمر لا يدركه الرجل دومًا، مما يعمّق سوء الفهم ويزيد من تعقيد العلاقات بين الجنسين.

تواصُلٌ مُمْكن رغم الاختلافات

يتضح، من خلال هذا التباين، اختلاف واضح في كيفية تعامل الرجال والنساء مع الصراعات العاطفية، إذ يلجأ الرجال غالبًا إلى العزلة والانكفاء كوسيلة لإعادة ترتيب مشاعرهم والتخفيف من حدة التوتر النفسي، متجنّبين بذلك الضغوطات الخارجية، ويعتبرون الانسحاب فرصة لاستعادة التوازن النفسي وإعادة النظر بموضوعية في المواقف التي يمرون بها. في المقابل تميل النساء إلى التعبير العاطفي بوصفه وسيلة لفهم مشاعرهن والتخفيف من حدتها عبر التواصل مع الآخرين. لا يُعدّ هذا التعبير سعيًا لحل المشكلات بشكل فوري، بقدر ما هو خطوة أساسية لتحرير العواطف واستعادة الشعور بالاتصال العاطفي مع من حولهن. وبالتالي، يتباين الأسلوب الذي يعتمد عليه كل جنس لمواجهة الضغوط العاطفية، مما قد يخلق فهماً مختلفاً بين الطرفين حول كيفية التعامل مع الصراعات العاطفية. لا يقتصر هذا التباين على اختلافات سطحية في أسلوب التفكير، بل هو تجلٍ لبنية نفسية عميقة متأصلة في طبيعة التجربة العاطفية لكل جنس. من هنا، يصبح الوعي بهذه الآليات ضرورة لفهم أعمق لطبيعة العلاقات الإنسانية، حين لا يكون الاختلاف سببًا لسوء الفهم، وإنما فرصة لإثراء الحوار العاطفي وتعزيز التفاعل بين الطرفين.

كيف يمكن للرجل والمرأة تحويل اختلافاتهما العاطفية من مصدر للإحباط إلى نقطة انطلاق لتعزيز التفاهم؟ وإلى أي مدى يسهم إدراك الفروق الجوهرية في تقوية أواصر العلاقة بدلًا من تعميق فجواتها؟ هل يكمن الحل في تقبل هذه الاختلافات فقط، أم أن هناك حاجة إلى تطوير أساليب تواصل واعية تعيد تشكيل طريقة التفاعل بين الطرفين؟ كيف يمكن للصبر والتعاطف أن يكونا أدوات فعّالة في التكيف مع التحديات، وفي إعادة بناء العلاقة على أسس أكثر توازنًا وانسجامًا؟ وأخيرًا، هل يمكن للوعي بهذه الفروقات أن يخلق لغة مشتركة تُحوِّل الاختلافات من عقبات إلى روافد تُثري العلاقة وتجعلها أكثر توازنًا؟

حين يتحدث المريخ وتستمع الزهرة

يسعى جون غراي إلى تحليل الفروقات السلوكية بين الرجل والمرأة، والاقتراب من فهم تشكيل فهمنا لآليات التواصل العاطفي، في الوقت الذي تصبحُ فيه هذه الفروقات جزءًا من دينامية العلاقة بدلًا من أن تكون مصدر توتّر مستمر. في هذا السياق، يوضح غْراي أن انعزال الرجل لا يمثل رفضًا للمرأة أو ابتعادًا عاطفيًا عنها، بقدر ما هو تعبير عن حاجة نفسية عميقة تهدف إلى استعادة التوازن الداخلي وتجديد الطاقة الذهنية والعاطفية؛ لذلك يساعده هذا الانسحاب المؤقت على إعادة ترتيب مشاعره وأفكاره، مما يمكنه من العودة إلى الحياة اليومية بحالة ذهنية أوضح وطاقات متجددة. ومن ثم يصبح التفاهم المتبادل بين الطرفين ركيزة أساسية لبناء علاقة صحية ومتوازنة، تستدعي من المرأة إدراك الأبعاد النفسية لهذا الانعزال، وعدم تفسيره باعتباره إشارة إلى التجاهل أو الافتقاد العاطفي.

لا يقدم كتاب جون غْراي وصفات جاهزة، بقدر ما يدعو إلى تحوّل جوهري في كيفية إدراكنا لطبيعة العلاقة بين الطرفين؛ وعلى هذا الأساس لا تكمن العقبة الحقيقية في اختلاف أنماط التعبير بحد ذاتها، بل في التسرع إلى تأويل هذه الأنماط بناءً على تصورات مسبقة تغذي سوء الفهم وتكرّسه. وعندما يدرك كل طرف أن الآخر لا يعكس بالضرورة منطقَه الخاص، ويتصرف وفق منظومة وجدانية مختلفة، آنذاك يتحول الاختلاف إلى حوار بنّاء يُثري العلاقة بدلاً من أن يضعها في مواجهة مستمرة من الصراع والتبرير المتبادل.

يؤكد غراي أيضًا على الدور الحاسم للاحترام المتبادل في بناء العلاقات، مشددًا على أن قبول الاختلافات يشكل ركيزة أساسية لتحقيق التوازن بين الطرفين. إذ يسهم التقدير العميق لخصوصيات الآخر في تعزيز فعالية التواصل، ويخلق مناخًا يسوده الثقة والطمأنينة النفسية. ومن خلال هذه القدرة على تقبل التنوع في الأفكار والمشاعر، يُتيح كل طرف المجال لنمو العلاقة بشكل طبيعي ومتوازن، متجنبًا الانسحاب أو التوتر الناتج عن محاولات فرض التطابق أو إحداث تغييرات قسرية. من هذا المنظور يدعو غْراي إلى تبنّي رؤية مغايرة تجاه الاختلافات بين الأفراد، معتبرًا إياها عوامل إيجابية تُسهم في تعزيز متانة العلاقة بدلاً من أن تتحول إلى مصادر للإحباط أو التوتر. فالعلاقات العاطفية، في جوهرها، تمثل فضاءً خصبًا للنمو والتعلم المتبادل، حيث تتاح لكل طرف فرصة لفهم الآخر واحترام خصوصياته. ومن خلال هذا الفهم المشترك تتطور العلاقة بشكل متوازن وتزداد عمقًا وقوة، مما يمكّن كلا الطرفين من التكيّف بصورة أكثر فعالية مع تحديات الحياة.

يتمحور النقد الأساسي الموجَّه إلى كتاب غْراي حول نزوعه أحيانًا إلى اختزال التعقيد النفسي والعاطفي في تصنيفات ثنائية تُقابل بين الذكورة والأنوثة، وهو ما قد يفضي إلى تبسيط مفرط للتجربة الإنسانية. وعلى الرّغم من اعتماده على شهادات وتجارب سريرية لدعم أطروحاته، يرى بعض النقاد أن هذا التبسيط يُغفل الطابع المتعدد الأبعاد للعلاقات العاطفية، ويخاطر بإعادة إنتاج أنماط نمطية لا تعكس بالضرورة تنوّع الواقع العاطفي واختلاف السياقات الثقافية والاجتماعية.

يفترض الرجل، في سياق التفاعل الإنساني، أن منطقه واضح ومُسلَّم به، كما تعتقد المرأة أن تعبيرها العاطفي كافٍ لإيصال المعنى. غير أن هذا الافتراض المتبادل يحجب في كثير من الأحيان عمق الاختلافات الكامنة بينهما، والتي لا تُدرك بسهولة، نظرًا لتباين المرجعيات النفسية وأساليب التأويل لدى كل طرف. من هنا يتناول كتاب “الرجال من المريخ، والنساء من الزهرة” هذه الفجوات الخفية، لا بوصفها صراعًا، وإنما باعتبارها تنوّعًا يغني التجربة العاطفية ويمنحها عمقًا؛ وهو بهذا الاعتبار دعوة لإعادة تشكيل فهمنا للحب والتواصل، حين يصبح الإدراك لغةً مشتركة، والتقدير جسرًا متينًا، والتواصل مهارة يُتقنها من يعي أن الاختلاف ليس عائقًا، بقدر ما هو نسيج خفيّ يشدّ أواصر الانجذاب بين الرجل والمرأة.

وهكذا فإن فهم الاختلاف بين الرجل والمرأة لا يعني تجاوزه أو طمسه، وإنما إدراكه بوصفه جوهرًا يُثري العلاقة ويمنحها أبعادًا أعمق. فالحب ليس تماهياً يُلغي الفروق، إنه تناغم يُحوّل التباين إلى قوة، والتواصل إلى جسر يمتد بين العقول والقلوب؛ حين يغدو الإصغاء ممارسةً واعية، ويصبح التقدير نمطًا متبادلاً من التواصل، يتّضح أن جوهر العلاقة الناجحة لا يكمن في التشابه، وإنما في القدرة على احتضان الاختلاف. في هذا السياق لا يُنظر إلى الحب على أنه شعور عابر أو حالة لحظية، بل يتمّ تأطيره بوصفه بنية معرفية وعاطفية متماسكة، تُرسَّخ بالعلم والوعي، ويغذيها الالتزام بالمودّة. ويُعدّ كل اختلاف داخل هذه البنية مدخلاً حيوياً لإعادة تشكيل التفاهم وتوسيع آفاق القرب الإنساني، بما يجعل العلاقة أكثر عمقًا وديمومة.

كيف يُعيد كتاب جون غراي تشكيل الفهم التقليدي للعلاقات بين الرجل والمرأة عبر دعوته إلى الاعتراف بالاختلاف؟ ما هي الدلالات النفسية والاجتماعية لهذا الاعتراف في تعزيز التفاهم والتواصل بين الجنسين؟ إلى أي مدى تشكل تبسيطات الكتاب عائقًا نقديًا؟ وهل يمكن اعتبارها بداية لإعادة النظر في تعقيدات العلاقات الإنسانية؟ كيف يساهم التحول من فرض التماثل إلى احتضان التنوع في خلق حوار بناء يثري العلاقة بدلاً من أن يحولها إلى صراع؟ ما هو الدور الذي تلعبه هذه الرؤية في تعزيز النمو النفسي والاجتماعي داخل العلاقات العاطفية؟

لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق