تألّق المسلسل المغربي “على غفلة” في سماء الدراما الوطنية، مُخترقا جدار التقاليد البرمجية التي طالما حصرت الإبداع في موسم رمضان؛ فقد استطاع هذا العمل أن يفرض حضوره بقوة، مستقطبا اهتمام الجمهور وناقديه على حد سواء، ومُعيدا تشكيل خارطة التلقي الفني خارج الإطار الزمني المعتاد.
هذا النجاح اللافت يُعيد طرح تساؤلات جوهرية حول معايير اختيار الأعمال الدرامية وتوقيت عرضها، مُبرزا أن الجودة الفنية والصدق في الطرح يمكن أن يتفوّقا على القيود الزمنية التقليدية.
يتناغم بروز “على غفلة” مع التحوّلات المتسارعة في علاقة المتلقي المغربي بالمنتج الدرامي، إذ لم يعد أسير البرمجة الموسمية؛ بل غدا متلقّيا فاعلا، ينتقي بناء على ترشيحات ذكية وميزان جودة لا يُخدعه الطقس الزمني. وقد كشف الزخم التفاعلي على مواقع التواصل الاجتماعي عن صعود منصات الرأي الموازي، حيث رأى كثيرون أن غياب هذا العمل عن برمجة رمضان يُثير تساؤلات ويُشير في نظرهم إلى اختلالات محتملة في معايير الانتقاء داخل المؤسسات الإعلامية الوطنية.
على الصعيد الاجتماعي، بدا أن مسلسل “على غفلة” قد نجح، في نظر كثير من المتابعين، في ملامسة شواغل المواطن المغربي اليومية، عبر معالجة درامية تنبض بالصدق وتستحضر هموما معيشية بصيغة فنية قريبة من الواقع. ويرى المتلقون أن العمل، من خلال قصته التي تتمحور حول “فرح” طالبة الطب في باريس، التي تعود قسرا إلى المغرب بعد اتهام والدتها بجريمة قتل، قد استطاع أن يُقحم المشاهد في تجربة وجودية معقدة. إذ تتنازل البطلة عن حلمها الأكاديمي لتتحمّل مسؤولية إخوتها، وتدخل عالما يضج بالصراعات الاجتماعية والتقلبات النفسية. هذا المسار السردي، الذي وصفه نقاد بالمتماسك والواقعي، أتاح للعمل أن يُحسَب على الدراما الهادفة، التي تُسائل الواقع من دون افتعال، وتخلق جسورا عاطفية وفكرية بين النص والمتلقي. ومن ثَم، فإن ما وُصف بالتفاعل العفوي في منصات التواصل، يُعد شهادة على قدرة الدراما على التموقع في صلب انشغالات الناس حين تلامسهم بلغة فنية أصيلة.
مقاربة جمالية
الناقد الفني عادل فلاح سجل أن مسلسل “على غفلة” قدّم تجربة درامية متكاملة، حيث تميّز بنصّ محكم وإخراج متوازن وأداء تمثيلي متقن؛ مما جعله يستحق مكانة بارزة ضمن أبرز إنتاجات السنة، رغم غيابه عن برمجة رمضان.
وأشار فلاح، في تصريحه لجريدة هسبريس الإلكترونية، إلى أن العمل استطاع أن يتجاوز النمط الاستهلاكي السائد في بعض الأعمال الموسمية، وركّز على مضمون اجتماعي جادّ يستحق النقاش.
وأضاف الناقد الفني ذاته أن هذا المسلسل أعاد الاعتبار للدراما المغربية من خلال تناوله لتيمة الغياب المفاجئ وتبعاته الاجتماعية والنفسية، بأسلوب سردي متماسك ومقاربة إخراجية توازن بين الواقعية والتشويق.
كما شدّد المتحدث ذاته على أن تفاعل الجمهور مع العمل ليس وليد الصدفة؛ بل نتيجة تراكم إبداعي حُرم من فرصته في الموسم الرمضاني.
وأكد أن إشكالية انتقاء الأعمال المبرمجة في رمضان لا تزال قائمة، مبرزا أن بعض القرارات تُتخذ وفق اعتبارات تجارية أو علاقات إنتاجية وليس دائما بناء على معايير الجودة الفنية.
ودعا في هذا السياق إلى مراجعة آليات البرمجة بشكل يُنصف الطاقات الإبداعية ويمنح المتلقي أعمالا تستحق فعليا أن تُعرض في ذروة المشاهدة.
واعتبر المتحدث عينه أن مسلسل “على غفلة” قدّم درسا بليغا للمؤسسات الإعلامية في أهمية الرهان على النص الجيد والرؤية الإخراجية الواعية، بدلا من الركون إلى رهانات موسمية أو أسماء مألوفة.
وأضاف في حديثه لهسبريس أن العمل كشف عن نضجٍ ملحوظ في ذائقة المتلقي المغربي، الذي بات يميّز بين الدراما المؤسَّسة على رؤية فنية متكاملة وبين تلك التي تُصاغ بعجالة لخدمة البرمجة الرمضانية فحسب.
وأشار إلى أن المسلسل استطاع أن ينسج حبكة درامية محكمة تنطلق من عودة طالبة الطب من باريس بعد اتهام والدتها في جريمة قتل؛ وهو ما دفعها إلى التخلّي عن مسارها الشخصي لتحمل أعباء الأسرة. هذا التحول الجذري أبرز هشاشة البنية الاجتماعية المحيطة بالمرأة، وتوتّر الروابط العائلية حين تفرض الأزمات أدوارا غير متوقعة.
وخلص فلاح إلى أن العمل، في معالجته لتلك القضايا، لم يسقط في فخ الميلودراما أو الخطاب المباشر؛ بل استطاع أن يُلامس المشترك الإنساني بلغة درامية راقية، تستحق أن تُؤخذ كنموذج عند التفكير في برمجة مستقبلية تراعي القيمة الفنية والرسالة الاجتماعية معا.
معايير البرمجة
أوضح مصدر مسؤول من لجنة البرمجة بالشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة أن اختيار الأعمال الدرامية المعروضة خلال شهر رمضان يخضع لمساطر دقيقة ومعايير تقنية وفنية يتم احترامها بشكل صارم، نافيا وجود أي تمييز أو اعتبارات غير مهنية في عملية الانتقاء.
وأكد المصدر عينه، ضمن تصريحه لهسبريس الإلكترونية، أن اللجنة تتلقى سنويا عددا كبيرا من المشاريع، ويتم إخضاعها لمراحل تقييم متعددة قبل اتخاذ القرار النهائي بشأن برمجتها.
وأضاف مصدر هسبريس أن اللجنة تعتمد في تقييمها على مجموعة من المؤشرات؛ من بينها قوة السيناريو، وتماسك البناء الدرامي، وجودة الإخراج، ومدى قدرة العمل على استقطاب جمهور متنوع دون المساس بالثوابت الثقافية والقيم المجتمعية. كما أشار إلى أن المنافسة تكون شديدة بالنظر إلى عدد المشاريع المقدّمة وضيق الحيّز الزمني المتاح خلال الموسم الرمضاني.
وأبرز المتحدث إلى أن بث مسلسل “على غفلة” خارج برمجة رمضان يعكس أن الإنتاج الدرامي المغربي لم يعد يقتصر على رمضان فقط، وهو تطور إيجابي يدل على تنوع المشهد الدرامي المغربي.
كما أكّد المسؤول أن اللجنة لا تكتفي بالمعايير الفنية فحسب؛ بل تضع في حساباتها أيضا البُعد الاجتماعي للمشاريع، مثل مدى قدرتها على عكس التنوع الجغرافي والثقافي للمملكة والتجاوب مع القضايا الراهنة.
ولفت إلى أن “على غفلة” جاء قرب الصميم على الرغم من جدته؛ وهو ما تستحسنه الشركة الوطنية للإذاعة والتلفزة، لأن الهدف الأسمى يكمن في تقديم محتوى يلامس الجمهور وينبع من تجربته الواقعية.
وأضاف أن هذه التجربة قد تفتح الباب أمام إعادة النظر في مواعيد العرض، وعدم الاقتصار على موسم واحد كمقياس وحيد للجودة والنجاح.
تجدر الإشارة إلى أن مسلسل “على غفلة” يضم مجموعة من الممثلين المغاربة؛ من بينهم سلوى زرهان، كمال كاظمي، مونيا لمكيمل، فاطمة الزهراء بن ناصر، ربيع القاطي، مراد الزاوي، جلال قريو، وأسامة البسطاوي، إلى جانب مجموعة من الوجوه الفنية الأخرى. العمل من إخراج هشام الجباري، وتأليف أمينة الرايسي وجواد لحلو، ومن تنفيذ شركة عليان للإنتاج؛ وهي الشركة نفسها التي أشرفت على تنفيذ مسلسل “الشرقي والغربي”، الذي عُرض خلال شهر رمضان وأثار تساؤلات بين المتابعين بشأن توقيت عرضه ومدى ملاءمته لجودة العمل، مما يعكس تحديات البرمجة التلفزيونية في تقديم الأعمال الدرامية في أوقات تتيح لها الوصول الأمثل إلى الجمهور.
0 تعليق