يوافق اليوم 16 يونيو ذكرى ميلاد الفنان الكبير سعد عبد الوهاب، أحد أبرز الأصوات الهادئة في تاريخ الغناء العربي، وصاحب التجربة الفريدة التي اختار فيها الانسحاب من المشهد الفني في أوج نجاحه، إيمانًا منه بأن الفن ليس مجرد وسيلة للشهرة، بل رسالة يجب أن تُؤدى بأمانة واحترام للمجتمع والقيم.
نشأة سعد عبد الوهاب وبداياته في الإذاعة
وُلد سعد عبد الوهاب عام 1926 بالقاهرة، ونشأ في أسرة فنية عريقة، إذ كان نجل شقيق الموسيقار الكبير محمد عبد الوهاب، ورغم هذا النسب الفني الرفيع، لم يركن سعد إلى اسم عائلته، بل اختار أن يشق طريقه بنفسه، حيث التحق بكلية الزراعة وتخرج فيها عام 1949، وكان من زملائه وقتها الموسيقيان بليغ حمدي ومحمد الموجي، ما يوضح البيئة الفنية التي كان يعيش فيها حتى قبل أن يبدأ مشواره المهني.

ويرصد موقع تحيا مصر أنه بدأ حياته كمذيع بالإذاعة المصرية، واستفاد من صوته الرخيم وطريقته الهادئة في الإلقاء ليكوّن لنفسه قاعدة من المستمعين، حتى جاءت انطلاقته الحقيقية عبر السينما من خلال فيلم "العيش والملح" عام 1949 مع نعيمة عاكف، من إخراج حسين فوزي، وتوالت بعده عدة أفلام منها "علموني الحب"، و"أماني العمر"، و"بلدي وخفة"، التي قدم فيها أدوار الشاب الهادئ الرومانسي، بما يتوافق مع طبيعته الشخصية.
سبب اعتزال سعد عبد الوهاب
في عالم الغناء، رغم أنه لم يكن غزير الإنتاج، إلا أن ما قدّمه ظل خالدًا، وارتبط في وجدان الجمهور المصري والعربي، من بين أشهر أغانيه "الدنيا ريشة في هوا"، و"من خطوة لخطوة"، و"على فين وخداني عنيك"، و"وشك ولا القمر"، وغيرها من الأعمال التي امتازت بالبساطة والعذوبة، وعبّرت عن حسّ رومانسي راقٍ ظل سمة لصوته ولشخصيته الفنية.
لكن ما يميز تجربة سعد عبد الوهاب، ويجعلها فريدة بحق، هو قراره المبكر باعتزال الساحة الفنية، رغم النجاح الذي كان يحققه. لم يكن اعتزاله نتيجة خلافات أو فشل، بل جاء عن اقتناع عميق نابع من إيمانه بأن للفن مسؤولية، وأن عليه أن يقدّم أعمالًا تتفق مع مبادئه الشخصية والدينية. وقد زار بالفعل الإمام الشيخ محمود شلتوت، وطلب منه فتوى بخصوص العمل الفني، فجاءه الرد بأن الفن "كلمة هادفة" لا بأس به ما لم يكن فيه إثارة أو مشاهد مخلة، بناءً على تلك الفتوى، قرر سعد أن يضع ضوابط صارمة لا يتخطاها، ورفض مشاهد القبلات أو الأغاني التي تحرّض على العواطف المبتذلة، وهو ما أوقعه في صدام غير معلن مع مناخ فني بدأ يتغير.
طريق سعد عبد الوهاب بعد الاعتزال
إلى جانب قناعاته الدينية، كان سعد عبد الوهاب يعاني من وسواس فني شديد شبيه بعمه الموسيقار الكبير، إذ كان لا يرضى إلا بالحد الأقصى من الإتقان في كل ما يقدّمه. هذا التأني الشديد جعله قليل الإنتاج، لكنه ظل يفضّل الجودة على الكثرة، كما شعر بأن مقارنات الجمهور المستمرة بينه وبين عمه محمد عبد الوهاب تمثل عبئًا كبيرًا على حريته الفنية، إذ كان يرى أن الظل الثقيل لاسم العائلة يحول دون إبراز صوته الخاص وهويته المستقلة.
وبعد قراره بالابتعاد عن الأضواء، توجه إلى العمل في الإذاعة بالسعودية ثم الإمارات، حيث لعب دورًا مهمًا في تطوير الأغنية الوطنية، لا سيما في الإمارات، حيث شارك في تلحين السلام الوطني للبلاد، وظل هناك قرابة عشرين عامًا مستشارًا موسيقيًا، وموجهًا للفكر الغنائي في الإذاعة الرسمية، حتى بات يُعرف بأنه "صوت الوطن" أكثر من كونه نجمًا فنيًا استعراضيًا.
زيجاب سعد عبد الوهاب
في حياته الشخصية، تزوّج من سيدة خارج الوسط الفني، وأنجب منها ولدين هما "هاني" و"عمر"، وعاش سنواته الأخيرة في هدوء تام، بعيدًا عن الأضواء، وتفرّغ لتربية أولاده بعد وفاة زوجته، وظل هادئًا بسيطًا حتى وافته المنية في 22 نوفمبر 2004، عن عمر يناهز 78 عامًا، بعد صراع مع المرض، تاركًا خلفه تراثًا فنيًا قليلًا في كمه، عظيمًا في أثره.
رحل سعد عبد الوهاب بهدوء كما عاش، لكنه ترك وراءه مثالًا لفنان آمن أن النجاح لا يقاس فقط بعدد الأغاني أو الأفلام، بل بالصدق في التعبير، والنبل في الاختيار، والثبات على المبادئ. وفي ذكرى ميلاده، لا بد أن نستعيد تجربته ونتأمل رسالته، لنفهم كيف يمكن للفن أن يكون قوة ناعمة راقية، لا تسعى إلى الصخب، بل إلى التأثير الهادئ والباقي.
0 تعليق