بـ”معرض الشارقة الدولي للكتاب” في دورته 43 التي تستضيف المغرب ضيف شرف قُدّم في 127 جزءا “المعجم التاريخي للغة العربية”، وهو مشروع شارك في إعداده لما يربو على 7 سنوات مئات العلماء والأكاديميين المتخصصين في اللغة العربية، من مختلف أنحاء العالم، بإشراف “اتحاد المجامع اللغوية العلمية العربية”، و”مجمع اللغة العربية بالشارقة”، ومجامع لغوية أخرى بعواصم عربية، وهيئات من بينها “مكتب تنسيق التعريب بالرباط”.
المعجم الذي استكمل إعداده سنة 2024 الجارية قُدّم في ندوة صحافية حضرتها هسبريس في اليوم الثاني من الموعد الثقافي البارز، ويؤرّخ لـ 17 قرنا من اللغة العربية، وهو غير معاجم المعاني، إذ يمكّن الباحث من تبيّن تاريخ الألفاظ والكلمات “التي كانت رائجة ذائعة على ألسنة أبنائها وكتّابها وعلمائها، ومعانيها ودلالاتها، والعبارات التي ألِف أهل هذا العصر أو ذاك استعمالها وتوظيفها في كلامهم اليومي، وفي كتاباتهم الوظيفية وإبداعاتهم الأدبية وغيرها”.
“المعجم التاريخي”
في الندوة الصحافية قال امحمد صافي المستغانمي، الأمين العام لمجمع اللغة العربية بالشارقة، المدير التنفيذي للمعجم، إن “الذي حال دون إنشاء المعجم التاريخي قبل العصر الحديث، إضافة إلى ضخامة المشروع، فقدُ التكنولوجيا، وما كان يقتضيه من كلفة مالية كبيرة”؛ فـ”الإنجليز كتبوا معجمهم التاريخي في 70 سنة، والألمان في 130 سنة، بتدوين يدوي وجمع للبطاقات على الطريقة التقليدية”؛ ثم استدرك: “الفتح التكنولوجي المبين اختصر السنوات في دقائق. والاتصال بين المغرب والمشرق كان يتطلب ما يتطلبه، والآن يمكننا التواصل مع المحررين جميعهم في لحظة. التكنولوجيا سهلت المشروع، وقد اقتضى تكلفة مالية كبيرة، وهو ما تفضل به سمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، الذي قال منذ اجتماع القاهرة إنه مهما كلَّفه من وقت وجهد ومال سيُخرِج المشروع للعالَمين”.
والنتيجة بعد سنوات من العمل المشترك، وفق صافي المستغانمي، “الآن أصبح للعربية معجمها التاريخي في سبعة وعشرين مجلدا بعد المائة”.
وعلى غير منهج المعاجم العامة، من قبيل “تاج العروس” أو “لسان العرب”، فإن “أهمية المعجم التاريخي كونه قائما على منهج استقصاء وتتبع الألفاظ منذ ما قبل الإسلام إلى اليوم؛ من جذر الكلمة، وجميع الأفعال والمشتقات والمصادر والأسماء”، وفق المتحدث ذاته، مردفا: “نضبط حركة عين المضارع والماضي، بالحروف، ونرتبها، بجذورها ومشتقاتها…”، وتابع: “المعجم التاريخي يقدم تاريخ الكلمة في سياقها، من ألفاظ الشعر العربي والقرآن الكريم والحديث النبوي الشريف، وبعد العصر الإسلامي في آية القرآن والحديث والشعر. وفي العصر الأموي نكتفي بالشعر، ثم يأتي عصر الدول والإمارات، وصولا إلى العصر الحديث المقدّم من خلال أشعار المحدثين وصولا إلى لغة الرواية، والمسرح، والتواصل الاجتماعي…”.
“بالتالي المعجم التاريخي للغة العربية ليس شرحا لغويا، بل يجد القارئ نفسه مع تاريخ، وفقه، ومصطلح، وفلسفة، وشعر… وأول ما استُعمِل من المصطلحات، ينتقل من زهرة إلى زهرة ومن بستان إلى بستان. وحُقَّ للأمة أن تفتخر بمعجمها التاريخي، ولا بد من أن نحيّنه بعد عشر سنوات، لأن المعجم ستضاف إليه كلمات وألفاظ مستحدثة، لأن اللغة كائن حي (…) وستقوم لجنة بتحسين العمل، فالذي لا يخطئ هو الذي لا يعمل”، يخلص المدير التنفيذي للمعجم.
إنجازٌ للجميع
محمد حسن خلف، عضو مجلس أمناء مجمع اللغة العربية بالشارقة، ذكر من جهته أن المجلّدات الـ 27 بعد المائة من “المعجم التاريخي للغة العربية” “إنجاز لا يسجل لدولة دون أخرى، أو جهة دون أخرى، بل يسجل للعرب جميعا؛ فمعظم لغات العالم طوّرَت معاجمها اللغوية التاريخية باستثناء اللغة العربية”، وهو ما تمّ الآن.
وواصل خلف: “هذا معجم لغوي يضم كل كلمات اللغة العربية من النطق الأول لها، منذ عصر ما قبل الإسلام، مع تتبع تطورها إلى العصر الحديث؛ فالمعجم التاريخي غير المعجم العادي المتحدث عن المفردات والكلمات، ويواكب ضخامة اللغة العربية، بوصفها لغة ذات إرث لغوي معجمي كبير، لا تضاهيه أي لغة، واللغة الأقرب إليها لها نصف أو ربع مفرداتها”.
وأعانت على إنجاز المعجم “التطورات التكنولوجية التي ساهمت بشكل كبير في هذا المشروع، فحصر اللغة العربية لم يكن ممكنا بالوسائل التقليدية فقط (…) والمستشرق الألماني فيشر أوجست بمجمع اللغة العربية بالقاهرة بدأ المشروع لكنه تعثر، وتلته مشاريع كثيرة أخرى. وقد حرص سمو الشيخ سلطان القاسمي على أن يكون مشروعا عربيا لا يحسب لدولة ولا إمارة ولا هيئة، بل للعرب جميعا؛ فكان العمل مع اتحاد المجامع العلمية بالقاهرة، التابع لجامعة الدول العربية؛ وأثمر مشروعا يختزن الشواهد اللغوية شعرا، ونثرا، وأمثلة، وأحاديث نبوية، وقرآنا، وكل ما قالته العرب”، يورد المتحدث ذاته.
تجديدٌ للّسان
محمد السعودي، أمين عام مجمع اللغة العربية الأردني السابق مقرّر الفريق الأردني، تطرّق بدوره إلى “الوقت والجهد العظيمين اللَّذَين استغرقهما العمل”، وشكر السلطان بن محمد القاسمي على “نية صادقة ومتابعته الحثيثة؛ فهذا المعجم ما كان ليجتمع لولا جهد عظيم من الباحثين والعلماء والخبراء والمحررين والقائمين الفنيين عليه”، وأضاف: “خدمَتنا التكنولوجيا في وجود هذا المعجم بيننا اليوم، في التواصل العلمي والثقافي، ومن أمثلة ذلك أنه عند الخلاف في أحد الجذور: في العصر القديم أو منذ ثلاثين عاما كانت ستأخذ المشاورات والأخذ والرد بين العلماء سنوات وسنوات، بينما صار بإمكاننا النقاش عبر البريد الإلكتروني أو ‘الواتساب’ وكلّ يأتي بحججه”.
ومن بين ثمرات “المعجم التاريخي للغة العربية”، وفق السعودي، تتبع تاريخ استعمال وتطور “الكم الهائل من الألفاظ والدلالات في العربية”؛ ويمكن أن تمتد إلى “اللغة الصحافية”، موردا: “في السنوات التي مضت كنا نجد كُتُبَ: قُلْ ولا تقل، وتَخْطِئ مقولة فلان أو علان… وما تبين لي من خلال المعجم التاريخي أن الصحافيين إذا آثروا على أنفسهم قراءة المعجم سيخترعون لغة وسيطة فاعلة من الحياة؛ فكثيرٌ مما قيل إنه خطأ في اللغة أثبت المعجم أنه صحيح ومستعمل”.
“هذا المعجم سيقدم ثقافة عربية للآخر أيضا، ويبين أن من الإشكالات التي تواجه اللغة العربية اليوم أننا نحن من لم نستطع أن نجد المصطلح الذي يستطيع أن يصير سائرا بين الناس، فاخترنا مفاهيم مثل التلفون، والتلفزيون وغيرها، ولو كان لدينا معجم تاريخي لاستطعنا استخراج المصطلحات القريبة من الناس، التي ليست في منأى عن حياتهم”، يورد المتحدث.
وتساءل الأكاديمي ذاته في كلمته بالندوة الصحافية التي تقدّم 127 مجلّدا من المعجم التاريخي للغة العربية: “لغتنا عيمقة، وقوية، وجميلة، وأخّاذة، وإيحائية، وتصويرية… فلم لا نستخدمها في الاستكشافات الحديثة؟ فمن الشعوب من لا تتحدثُ إلا بضعة ملايين لغتها وتستعملها في ذلك”، ثم ختم مداخلته بالقول: “العزة للإنسان بلغته، وفكرته، وثقافته”.
0 تعليق