عارض الباحث إدريس العلوي مقتضيات المادة الثالثة من مشروع قانون المسطرة الجنائية رقم 03.23، معتبرا أن “الصورة التي سيعكسها هذا التعديل تُخفي مخاطر سمعة تعطي الانطباع بالتضييق القانوني على الحريات بشكل عام مع اعتبار المغرب في نفس حالات تراجع هذه الحريات في دول عديدة اعتمدت قوانين أو أدخلت تعديلات على قوانين الجمعيات لم تكن تهدف من خلالها بشكل أولي الحد من حريته”.
وكتب الباحث في أنظمة شفافية ومساءلة المنظمات غير الحكومية ومنظمات المجتمع المدني أن “الملاحظين الدوليين سيعتبرون التعديل بمثابة تذبذب في الإرادة السياسية لمكافحة الفساد وتراجع للمنظومة القانونية عن مكتسب للنسيج الجمعوي العامل في هذا الميدان في ظل عسر فهم المحللين من مكاتبهم في واشنطن وستوكهلم وباريس أن سبب التعديل هو الرغبة في الحد من ابتزاز تلك الجمعيات لمدبري الشأن العام”، كما يدّعي عبد اللطيف وهبي وزير العدل في دفاعه عنها.
وسجّل العلوي أن الحريات العامة ومحاربة الفساد تحظى باهتمام شديد ودائم من لدن العديد من المنظمات والهيئات الدولية المؤثرة، خصوصا التابعة منها لمنظمة الأمم المتحدة وكذلك نوادي التفكير.ذ
وأورد أنه اعتبارا لكيفيات اشتغال هذه المنظمات، فإن من شأن المقتضى في صيغته المقترحة أن “يؤثر سلبا” على سمعة المغرب؛ بالنظر إلى أن “معايير صياغة التقارير الدولية في هذين الميدانين: الحريات ومكافحة الفساد، تستند قبل كل شيء إلى مدى ملاءمة الإطار القانوني والتنظيمي ومدى تطور الممارسة الفعلية على أرض الواقع”.
“مخاطر حقيقية”
العلوي اعتبر، في إفادات قدمها لهسبريس حول الموضوع، أن “أول ما يسجل على مشروع التعديل هو أنه خارج سياق بناء الديمقراطية التشاركية التي يصبو إليها الفاعل السياسي والمدني وسيره عكس ما وضعه دستور 2011 من أسس لمشاركة المجتمع المدني في تدبير الشأن العام ولممارسة الأدوار الجديدة التي خصه بها النص الدستوري”، لافتا إلى أن “القطاع الجمعوي المغربي يستفيد حاليا، أكثر من أي وقت مضى، من مناخ سياسي عام ومن منظومة قانونية”.
وقال الباحث إن المنظومة “تضمن حرية تأسيس الجمعيات ومشاركة المهتمة منها بالشأن العام في الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية عبر الانخراط في صياغة وتنزيل وتقييم السياسات والبرامج والمشاريع العمومية”، مسجلا أن “الفعل العمومي في مجال مكافحة الفساد، كما في باقي المجالات، يباشر في سياق سياسات عمومية تنبني على رؤية وتصور وتخطيط وتنفيذ وتقييم”.
وتابع شارحا: “إذا استحضرنا روح النص الدستوري في هذا المجال، لا يمكن تصور تحقق تقدم على مسار مكافحة الفساد بدون تبني ما استجد في مدارس الحكامة والتدبير العمومي التي تعتمد في الإشكاليات المركبة على الإبداع الاجتماعي (Social innovations) وسياسات الأثر الجماعي (collective impact policies) مع ما يتطلبه ذلك من أقصى مستويات من المشاركة المدنية والشعبية”، مشيرا إلى ضرورة “عدم إغفال المخاطر المستجدة المرتبطة بالمالية العمومية وتنامي الاستثمار العمومي لإنجاز المشاريع الكبرى التي تم إطلاقها في إطار تنزيل النموذج التنموي الجديد واستعدادا لمواعيد التظاهرات الدولية الكبرى”.
والثابت من التقارير الدولية، وفق الكاتب، “هو أنه، خلال الظروف الاستثنائية، تتدنى جودة البيانات المالية وتتعاظم معها مخاطر الاحتيال والغش وباقي مظاهر الفساد؛ وهذا الوضع يتطلب مراجعة السياسات الرقابية الداخلية والخارجية، المؤسسية وغير المؤسسية، وتعزيز كل أوجه ومستويات اليقظة بما في ذلك تمكين منظمات المجتمع المدني وبناء قدراتها لتلعب أدوارها كاملة في هذا المجال”.
وشدد على أن المادة الثالثة من المشروع تشكل “تراجعا عن حق مكتسب بقوة القانون للجمعيات لإقامة الدعوى العمومية الذي كانت تمارسه طبقا للمواد 40 و41 و51 من قانون المسطرة الجنائية وفي انسجام مع المبادئ العامة لممارسة حق تأسيس الجمعيات كما هو متعارف عليها دوليا ومع مقتضيات ظهير 1958 ذات الصلة التي تكفل للجمعيات حق الولوج إلى منظومة العدالة كباقي الأشخاص المعنويين للدفاع عن مصالحها”، بشرط “توفرها على الأهلية القانونية والمصلحة”.
وبحكم “شرعيتها كهيئات وسيطة في المشهد المؤسسي للدولة”، قال العلوي إن “للجمعيات العاملة في مجال حماية المال العام كامل الصفة والمصلحة للولوج لمنظومة العدالة للدفاع عن مصالحها المعنوية متى كان ذلك حيويا لتحقيق أهداف مشروعة قبلتها السلطات الإدارية والقضائية كأساس لتأسيس تلك الجمعيات”، مبرزا أن “المشرع يعترف صراحة، من حيث المبدأ العام على الأقل، بإمكانية تحقق ضرر للجمعيات جراء أفعال جرمية حيث نصت المادة 7 من قانون المسطرة الجنائية على حق الجمعيات ذات المنفعة العامة في إقامة الدعوى المدنية للتعويض عن الضرر عند ارتكاب فعل جرمي يمس مجال اهتمامها المنصوص عليه في قانونها الأساسي”.
“خدعة الابتزاز”
وذكر الكاتب تصريحات بعض الفاعلين السياسيين التي يستفاد منها أن “المبرر الرئيسي للتعديل هو تفادي مخاطر تصيد الجمعيات شبهات الاعتداء على المال العام الواردة في التقارير الرقابية لإشهارها ورقة تفعيل آلية القضاء وابتزاز المدبرين العموميين”، مبرزا أن “مؤسسات الحكامة لا تفصح للعموم عن الأفعال التي قد تكتسي طابعا جرميا؛ بل تكتفي فقط بنشر ما يتعلق بالحكامة والتدبير والإدارة، مع إعمالها قنوات التواصل المؤسسي المسطرية وغير المسطرية مع السلطة القضائية”.
وزاد شارحا: “عمل السواد الأعظم من الجمعيات مستمر وهي لا تنتظر المواعيد السنوية لنشر تقارير المؤسسات الدستورية حتى تترصد الأفعال الجرمية لتستخدمها لأغراض التشهير والابتزاز، وينبغي أن يترك لها حق ولوج القضاء لتوصل إليه ما تكتشفه من أفعال بوسائلها الخاصة في إطار برامجها وأنشطتها”.
وأورد الممارس في مجال الرقابة المالية والتدقيق وتقييم السياسات العمومية: “ما أجمع عليه الفاعلون في ميدان مكافحة الفساد والجمعويون والحقوقيون هو أنه ليس من الراسخ ولا المنطقي في شيء التشريع أخذا بالممارسات الشاذة والحالات المعزولة (Faits divers) بمبرر ضمان مناخ سليم للعمل السياسي ولحماية مدبري الشأن العام (خصوصا المنتخبين منهم)؛ لأن آخر مداخله هو ما جاء في التعديل”.
وأضاف العلوي: “تجب معالجة حالات الابتزاز التي تكون قد سجلت باستحضار الحالات الكثيرة التي كانت فيها الجمعيات وراء متابعات ذات أثر وما زالت تشغل الرأي العام ودون إغفال أن التعديل المقترح سيحرم جمعيات في مجالات اشتغال أخرى غير حماية المال العام قد تكون ذات مصلحة في رفع شكايات للقضاء الجمعيات المهنية والبيمهنية، حماية البيئة، الأعمال الاجتماعية.. إلخ”.
بالنسبة للباحث، فإن “الدفع بضعف نسبة الحالات التي أدت إلى المتابعة أو الإدانة من مجموع الشكايات التي رفعتها الجمعيات ليس مسؤولية من رفع الشكاية؛ ولكن مرده إلى أعطاب أخرى لمنظومة العدالة انطلاقا من شروط ممارسة سلطة الملاءمة في مختلف مستوياتها”، داعيا إلى “النظر إلى تلك النسبة في مقارنة مع مثيلاتها في الحالات الرائجة التي لم تكن الجمعيات مصدرها وفي المتابعات التي تخص أفعال جرمية غير ذي علاقة بالمال العام”.
وللتذكير، فإنه ورد في المادة الثالثة المثيرة للجدل من مشروع المسطرة الجنائية 03.23 أنه “لا يمكن إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية في شأن الجرائم الماسة بالمال العام إلا بطلب من الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بصفته رئيسا للنيابة العامة، بناء على إحالة من المجلس الأعلى للحسابات أو بناء على طلب مشفوع بتقرير من المفتشية العامة للمالية أو المفتشية العامة للإدارة الترابية أو المفتشيات العامة للوزارات أو من الإدارات المعنية أو بناء على إحالة من الهيئة الوطنية للنزاهة والوقاية من الرشوة ومحاربتها أو كل هيئة يمنحها القانون صراحة ذلك”.
وجاء في المادة ذاتها أنه “خلافا للفقرة السابقة، يمكن للنيابة العامة المختصة إجراء الأبحاث وإقامة الدعوى العمومية تلقائيا في الجرائم المشار إليها أعلاه إذا تعلق الأمر بحالة التلبس”.
0 تعليق