احتفاء بمسارٍ امتدّ، ويمتدّ، بعد رحيل صاحبه، احتضن المعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط، اليوم الأحد، لحظة تكريم للفقيد محمد بنعيسى، وزير الخارجية ووزير الثقافة الأسبق، ومؤسس موسم أصيلة الثقافي، الذي يُنظم بمدينة أصيلة الصغيرة منذ أكثر من أربعة عقود كاملة، عرفانًا لتكريسه حياته للشأن الثقافي، وتفرغه له بقلبه ووجدانه.
وأدار “جلسة التخليد”، التي عُنونت بـ”بصمات في اتجاه الخُلد”، الأكاديمي والروائي مبارك ربيع، فيما اختار الروائي أحمد المديني أن يرثي صاحبه بأبيات شعرية ألقاها خلال اللقاء، وجاء في بعض أبياتها:
سلام عليكَ، بحرها منك فوّاح
وفصولٌ تسلمنا منك إلى مواسمك
أمداؤُها هيهات تُدرك، وأنّى تُترك
هل شاهدتَ موجًا
يلثمُ الوجوه المِلاح،
يناجيكَ حديثًا مديَّ اللّمسات.
بنسعيد: الراحل رمز بارز
وقال وزير الثقافة والشباب والتواصل محمد المهدي بنسعيد، في كلمة تلاها بالنيابة صلاح الدين عبقري، الكاتب العام بالنيابة لقطاع الثقافة، إن الراحل محمد بنعيسى كان “رمزًا بارزًا من رموز الثقافة والفكر، وعَلَمًا من أعلام التدبير العمومي والسياسة ببلادنا. (…)، وبرحيله يفقد المغرب والفضاء المتوسطي ودول الجنوب شعلةً مضيئة في سماء الدبلوماسية والثقافة والفكر والحوار”، واصفًا إياه بـ”الرجل الفريد” في “خصاله الإنسانية الرفيعة أو في رصيده المترامي الأطراف”.
وأبرز بنسعيد، خلال كلمته التأبينية، أن الفقيد “كان، رحمة الله عليه، فاعلًا في مسرح الأحداث، منذ تميّزه في حقل الإعلام داخل منظمات دولية، إلى أن وافته المنية في شهر فبراير الماضي”، مضيفًا أنه “بجودة عمله على المستويين المحلي والدولي نال الثقة الملكية”، وتقلد “حقيبة الثقافة في بلادنا لسنوات بكل كفاءة واقتدار، ولا يزال رصيده التدبيري يُذكر إلى اليوم ضمن أعمدة الصرح الثقافي للمملكة، ومنها هذا المعرض الدولي للنشر والكتاب الذي يُكمل هذه السنة عقده الثالث”.
وأورد وزير الثقافة أن “حضور الفقيد ظل وهّاجًا في التدبير الثقافي من خلال الروابط والشراكات والتنسيق الذي لم يتوقف يومًا”، مشيرا إلى “حرصه وإصراره على النهوض بالحقل الثقافي ببلادنا، إدراكًا منه لمركزية الثقافة في كل تدبير مجتمعي ينشد النماء والازدهار”. فمن الثقافة، “التي تحتاج إلى ملكات فكرية جامعة، توفرت لديه بلا منازع، وَلَج الفقيد سماء الدبلوماسية بحنكة نادرة”، سواء كسفير في الولايات المتحدة الأمريكية أو كوزير للخارجية، “في ظرفية مثقلة بصراعات جيوسياسية، قام بتدبيرها بحنكة رجال الدولة الكبار”.
وتابع قائلا: “تقلد هذه المهام في العاصمة الرباط وخارج أرض الوطن، (…)، وظل في أبلغ صور الوفاء لبلدته أصيلة، التي نقلها من السكون إلى مسرح الحدث العالمي”، مشيرا إلى أنه “تواجد داخل العمل السياسي البنائي لفائدة بنات وأبناء بلدته، كما تواجد أيضًا داخل الحقل الثقافي من خلال موسم أصيلة الثقافي الدولي”، الذي يجمع كل سنة شخصيات من عالم الفكر والثقافة والسياسة والاقتصاد والأعمال من مختلف بلدان المعمور.
الأشعري: الكتاب وصية الراحل
من جهته قال محمد الأشعري، الروائي والشاعر ووزير الثقافة الأسبق، إن الراحل “رجل جريء يستبق التطورات الممكنة في العالم الثقافي، ويغامر بالدخول في معمعة الإعداد والتنشيط والتحضير، حتى من دون إمكانيات كبيرة، لأنه في شخصه، وفي عقله، وفي قَدِّه، كان رجل المراهنة على المستقبل”. وتابع قائلا: “حتى آخر أيام حياته لم ألتقِ به يومًا ليتحدث عما فعله في الماضي، بل كان دائمًا يناقش ما سيفعله في المستقبل”.
وأضاف الأشعري، الذي حظي منجزه الأدبي والثقافي بتكريم في الدورة الأخيرة من موسم أصيلة الثقافي الدولي، في “خيمة الإبداع”، أن الاحتفاء بذاكرة الراحل يستدعي الوقوف عند أهم الأمور التي يمكن اعتبارها “وصية تركها لنا، وأولها الكتاب”، الذي “كان عنصرًا حيويًا في تفكير الراحل وفي مشاريعه، ولا بد أن نتعاون جميعًا، مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والكتّاب والإعلاميين، لجعل الكتب في بؤرة الاهتمام الوطني، في العائلات، والمدرسة، والشارع، وكل مكان”، يتابع الأشعري.
وبعدما قدم بعض بيانات مؤسسة آل سعود بالدار البيضاء حول الإصدارات الأدبية، قال عضو أكاديمية المملكة المغربية: “نحن نتقدم ماديًا، لكننا على مستوى إنتاج الجمال والفكر ما زلنا في الخطوات الأولى من حياتنا”، مضيفًا أن بنعيسى حمل هذا الهم، وكان “صاحب مشروع عظيم هو موسم أصيلة؛ وقد أدركنا مع الوقت، بعد نصف قرن، أن خلق بؤرة ثقافية في مدينة صغيرة يمنح إشعاعًا وطنيًا ودوليًا وعربيًا”.
وأبرز الأشعري، صديق الراحل، أنه انطلاقًا مما أنجزه بنعيسى في أصيلة تتضح “صعوبة خلق نهضة ثقافية واحدة تشمل مجموع التراب الوطني”، موضحًا أنه “يمكننا، بالمقابل، خلق بؤر متقاربة ومتعاونة انطلاقًا من نموذج أصيلة”، قبل أن يضيف إلى أنه “قام بعمل جبار على مستوى الفنون التشكيلية”، و”أدرج جوائز في قلب مدينة صغيرة، لكن صداها تجاوز حدود المغرب”.
البطيوي: مرشد ومربٍّ
وشارك حاتم البطيوي، أحد أقرب الأشخاص إلى الراحل وخلفه في الأمانة العامة لمؤسسة منتدى أصيلة، مع الحاضرين “الحيرة التي انتابته”، وتساءل: “من أين أبدأ الحديث عن السي محمد بنعيسى، رحمه الله؟”، مضيفا “لقد رافقته عن بُعد، كأحد أطفال أصيلة الذين كبروا في كنف موسمها الثقافي، ووجدوا ضالتهم في مرسم الأطفال بقصر الثقافة، كما رافقته عن قرب مع توالي الأيام والسنين”.
وأشار البطيوي إلى أنه “أمام كل ذلك ظل السي بنعيسى بالنسبة لي، ولباقي زملائي ورفاقي في جمعية المحيط، التي أصبحت لاحقًا مؤسسة منتدى أصيلة، شخصًا متعدد الأبعاد والمزايا، فهو المثقف، والسياسي، والدبلوماسي، والفنان، والمرشد، والمعلم، والمربّي… وقبل كل شيء، هو الإنسان، الذي تلمس إنسانيته الفذّة منذ الوهلة الأولى”.
وتابع قائلا: “غادرنا إلى دار البقاء، لكن إرثه وأفكاره ورؤاه ستظل تلازمنا مدى الحياة، بل ستظل مصدر إلهام لنا وللأجيال القادمة”، معتبرًا أن “ما قام به في أصيلة على امتداد أكثر من 45 سنة هو في نهاية المطاف إنجاز يصب في خدمة الإنسان. ومن ثم، فإن البُعد الإنساني، إلى جانب البعدين الثقافي والسياسي- الدبلوماسي، كان الأساس في مسيرته المتميزة”.
وأفاد الأمين العام لمؤسسة منتدى أصيلة أنه “منذ انطلاقة مشروعه الثقافي والتنموي في أصيلة راهن الراحل على الطفل باعتباره عماد المستقبل، وحرص على أن ينشأ هذا الطفل في بيئة نظيفة، تُلهمه الإبداع، وتمكّنه من النظر إلى العالم بروح إيجابية، مفعمة بالجمال والفن”، موضحًا أنه “من هنا جاءت فكرة إنجاز الجداريات الفنية في أزقة المدينة العتيقة. وكان يقول رحمه الله: إذا كانت بيئة الطفل سليمة، فإن عقله سيكون سليمًا لا محالة”.
0 تعليق