في مشهد عالمي يتغير بسرعة وتتشكل فيه موازين قوى جديدة، تعيد مصر تموضعها على خارطة العلاقات الدولية من منطلق وطني مستقل، لا يَرضى بالتبعية ولا يقبل بالارتهان؛ إذ لم تعد القاهرة تكتفي بدور المتلقي، بل باتت تصوغ سياستها الخارجية وفق منطق يوازن بين الانفتاح والحذر، ويضع مصلحة الدولة فوق كل اعتبار.
التحركات الأخيرة – من رفض الطلب الأمريكي بالعبور من قناة السويس دون رسوم، إلى استقبال الرئيس عبد الفتاح السيسي، منذ أيام لوفد رجال الأعمال الأمريكيين المشاركين في المنتدى الاقتصادي المصري-الأمريكي الذي عٌقد بالقاهرة، ثم الزيارة التاريخية المُرتقبة للرئيس الصيني شي جين بينج إلى مصر والحديث عن صفقات من المرجح توقيعها بين مصر والصين – تكشف ملامح استراتيجية مصرية جديدة ترفع شعار: لا انحياز في صراع الكبار، بل استثمار ذكي لصالح الأمن القومي والتنمية الاقتصادية.
•السياسة الخارجية المصرية: ثوابت لا تنكسر
منذ 2013، تبنّت الدولة المصرية سياسة خارجية قائمة على أساس الثبات والاستقلال في القرار الوطني، والانفتاح المتوازن على مختلف القوى الدولية، تحت مبدأ: مصر لا تعادي أحدًا، لكنها لا تسمح بالتدخل في شؤونها، وترفض أن تكون ساحة نفوذ لأي طرف خارجي مهما كانت العلاقات قوية أو المصالح متشابكة.
في هذا السياق، جاء رفض الرئيس السيسي الاستجابة لمطلب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالمرور في قناة السويس دون دفع الرسوم، كمؤشر واضح على أن السيادة الوطنية خط أحمر لا يمكن تجاوزه حتى من قِبَل واشنطن.
• الأمن القومي المصري: أيديولوجيا السيادة أولًا
الرؤية المصرية للأمن القومي تطورت من المفهوم العسكري التقليدي إلى مفهوم أشمل يتضمن الأمن المائي، الغذائي، الاقتصادي، والتكنولوجي.
الرفض المصري للمطلب الأمريكي بالعبور من قناة السويس دون رسوم لم يكن مجرد إجراء سيادي، بل تعبير عن فلسفة تقوم على رفض منح امتيازات دون مقابل، فمصر باتت تدير ملفاتها الحيوية بعقل استراتيجي يدرك أن كل نقطة قوة يجب أن تتحول إلى أداة تفاوض فعالة.
• قناة السويس: سلاح جيوسياسي في يد القاهرة
قناة السويس لم تعد ممرًا مائيًا فحسب، بل أصبحت أداة سياسية واقتصادية تضيف إلى قوة مصر الناعمة والصلبة؛ وفي ظل التنافس الدولي على سلاسل الإمداد والملاحة العالمية، تتحول القناة إلى ورقة ضغط بيد القاهرة، تديرها بدقة ومسؤولية.
ولعل التطور اللافت في هذه المرحلة هو الاستجابة الأمريكية الواقعية لمواقف مصر؛ ففي أواخر مايو 2025، استقبل الرئيس عبد الفتاح السيسي وفدًا من رجال الأعمال الأمريكيين المشاركين في المنتدى الاقتصادي المصري الأمريكي، يتقدمهم "جون كريسمان" رئيس مجلس الأعمال المصري الأمريكي، و"سوزان كلارك" رئيسة غرفة التجارة الأمريكية، إضافة إلى ممثلين عن شركات كبرى مثل Google، General Electric، Pfizer وHoneywell.
الرئيس السيسى دعا خلال اللقاء إلى إنشاء منطقة صناعية أمريكية في المنطقة الاقتصادية لقناة السويس، مؤكدًا أن مصر مستعدة لتقديم كل التسهيلات اللازمة، في ظل ما تتمتع به من استقرار سياسي ومجتمعي، وقدرة على إنفاذ الإصلاحات الاقتصادية.
هذا اللقاء لم يكن اقتصاديًا فقط، بل رسالة سياسية بأن مصر لا تقاطع أحدًا، لكنها تدير علاقاتها من موقع الندية، ووفق أولوياتها الوطنية؛ ومن جانبها، أكدت كلارك أن الشركات الأمريكية العاملة في مصر تحقق نجاحات ملموسة، وترغب في توسيع استثماراتها في قطاعات استراتيجية، ما يعكس إدراكًا أمريكيًا بأهمية القاهرة في معادلة التوازن الإقليمي.
• مصر والصين: مصالح متبادلة في زمن التعددية القطبية
تُدرك بكين أهمية مصر كبوابة إلى إفريقيا والعالم العربي، وتُثمّن استقرارها ورفضها للهيمنة الغربية، فيما ترى القاهرة في الصين شريكًا يُراعي الخصوصية ولا يفرض شروطًا أيديولوجية، بل يقدم بديلًا تنمويًا حقيقيًا.
ظهر هذا جليًا خلال زيارة الرئيس الصيني شي جين بينج لمصر أواخر مايو 2024، تلك الزيارة التي جاءت بعد عشر سنوات من ترفيع العلاقات إلى مستوى الشراكة الاستراتيجية الشاملة، وتُعد محطة مفصلية في مسار التقارب الصيني-المصري، والتي تضمنت توقيع عدد من الاتفاقيات في مجالات: تطوير مشترك لمبادرة الحزام والطريق، التعاون في التكنولوجيا والاتصالات، ودعم المشروعات الصناعية بقناة السويس، والتعليم الفني والابتكار، بالإضافة إلى اتفاقيات لدعم الأمن المائي والقضايا الإقليمية.
ومن هنا يفرض السؤال نفسه؛ هل تنتظر الصين دعوة الرئيس السيسي لبكين بإنشاء منطقة صناعية صينية بالمنطقة الإقتصادية بقناة السويس؟
• كيف تستفيد القاهرة من صراع الكبار؟
الصراع الصيني-الأمريكي لم يعد مجرد نزاع تجاري أو تقني، بل معركة على صياغة النظام العالمي الجديد؛ ومصر، بثقلها الجغرافي والديموغرافي والسياسي، تملك أوراقًا تجعلها فاعلًا مهمًا في هذه المعادلة العالمية؛ عن طريق:
1- تنويع التحالفات: حيث تنتهج مصر سياسة عدم الارتهان لمحور واحد، والحفاظ على التُوازن بين العلاقات الأمنية والتقنية التقليدية مع واشنطن، مع الحفاظ على شراكة اقتصادية تصاعدية مع بكين، فضلًا عن تعاون عسكري وسياسي مع روسيا، وانفتاح على تكتلات كـ"بريكس" و"شنغهاي".
2- استخدام الاقتصاد كأداة للسياسة: فلم يعد الاستثمار مجرد نشاط اقتصادي، بل أداة تأثير، حيث أن الصين تضخ استثمارات في البنية التحتية، والولايات المتحدة تحاول التمركز عبر الشركات متعددة الجنسيات، ما يمنح مصر قدرة تفاوضية لتشكيل شروط اللعبة.
ومن هنا يمكن التأكيد على أن التحول الأكبر في العقيدة المصرية هو دمج الاقتصاد ضمن منظومة الأمن القومي، حيث أن الهدف لم يعد فقط جذب رؤوس أموال، بل بناء شراكات تُعزز الإنتاج المحلي، وتنقل المعرفة، وتُرسخ سيادة القرار.
***
مصر، كما يبدو من مواقفها وتحركاتها الأخيرة، أنها تعيد تعريف مفهوم "الحياد الإيجابي" وتحوله من شعار إلى ممارسة دبلوماسية، فهي ليست في حالة عداء مع واشنطن، ولا في تحالف مطلق مع بكين، بل في حالة تفاوض دائم للحفاظ على استقلال القرار الوطني، وتعظيم المكاسب الاقتصادية في زمن لا مكان فيه للضعفاء، اختارت الإدارة المصرية أن تكون دولة قوية، صاحبة قرار، تُحسن استغلال موقعها، وتُراكم أوراق قوتها بهدوء وتفرض معادلتها على الجميع.
0 تعليق