لم تكن فرحة العيد في مصر يومًا مرتبطة بقدر ما في الجيوب، بل بما تحمله الأيادي الصغيرة من أوراق نقدية متواضعة، نُسميها "عيدية"، وتُسجل لنا لحظات من السعادة النقية التي لم يعرف لها القلب بديلاً، في زمان كانت فيه الضحكات صافية والقلوب خفيفة.
كانت العيدية في التسعينيات وبدايات الألفينات رمزًا للبهجة، رغم بساطتها، ولم تكن الأوراق من فئة المئتين أو المئة، بل كانت جنيهًا واحدًا، نصف جنيه، وربما ربع جنيه، كلها عملات ورقية تحمل بصمة الزمن الجميل، حيث كانت العيدية لاتقاس بالقيمة الشرائية، بل بحجم الفرحة التي تولدها في القلوب الصغيرة.

عيدية جنيه في التسعينيات.. فرحة لا تُشترى بثمن
كنا نستيقظ صباح العيد على أصوات التكبير من المآذن، نرتدي ملابس العيد الجديدة – مهما كانت بسيطة – ونتوجه إلى صلاة العيد بأقدام صغيرة ونفوس كبيرة، وبعدها تبدأ الجولة الرسمية على الأهل والجيران، وكل زيارة تُكلل بنجاح حين تمتد يد "الخال" أو "العم" أو "تيتة" بورقة مطوية بذكاء، نفتحها خلسة فنجد داخلها جنيهًا أخضر أو نصف جنيه بلون مائل للرمادي، فنشعر وكأننا امتلكنا كنزًا لا يُقدر بثمن.
كانت العيدية وقتها تكفي لأن نشتري بها كل ما نريد، فجنيه واحد كان يمكن أن يُقسّم بين كيس فشار من العربة القديمة عند أول الشارع، وبسكويت "بم بم"، وكوباية عصير مانجا من العربة الموجودة على “الناصية”، وحتى رحلة ملاهي صغيرة بـ25 قرشًا.

نوستالجيا الأعياد.. بين الورق والذكريات
تلك العملات الورقية التي نحتفظ ببعضها اليوم داخل دفاتر قديمة أو بين صفحات كتب المدرسة القديمة، كانت أوراقًا تحمل ملامح الفرح، حيث كانت ورقة الربع جنيه بحجمه الصغير، كفيلًا أن يجعلنا نحلق من الفرحة، وكانت النقود الورقية أخف وزنًا لكنها أثقل أثرًا من أي عملة معدنية جاءت بعدها.
وحين ظهرت العملات المعدنية لم تلامس القلب كما فعلت الورقية، فكانت أقسى في الملمس، أبرد في المعنى، ولم تعد تحمل نفس السحر، وكانت الورقة تُطوى وتُخبأ تحت المخدة، أو داخل الجورب، وكأنها سر كبير لا نُريد لأحد أن يعرفه.
وجدير بالذكر أننا كنا نذهب لشراء ألعاب بلاستيكية من العيدية، أو "نحوش" جزءًا منها لليوم الثاني من العيد، فبعضنا كان يحتفظ بها ليشتري بها كراسة رسومات أو لعبة "المغاغة" من محل لعب بسيط في الحارة، وكانت فرحة الطفل لا تقاس بحجم العيدية، بل بتلك اللحظة التي يشعر فيها أنه امتلك قراره وماله الشخصي.

أين ذهبت بهجة العيدية؟
حين كان يعطينا الكبار العيدية، كانت الفرحة على وجوههم لا تقل عنّا، حيث كان العطاء مصدر سعادة، وكانت البركة تطغى على كل شيء.
واليوم، اختلف كل شيء، وصارت العيدية أضعاف ما كانت عليه، لكن الفرحة خفت بريقها، فالطفل الذي يحمل 50 أو 100 جنيه اليوم، قد لا يشعر بنفس النشوة التي كنا نشعر بها ونحن نُمسك بجنيه واحد، فقد سرقت التكنولوجيا منهم الدهشة، وغلاء أسعار الألعاب في الأسواق قد ابتلع معنى العيدية التي كانت رغم بساطتها تستطيع شراء الكثير من الأشياء، من ألعاب وحلوى و"بومب العيد".
ولذلك تبقى العيديات القديمة محفوظة بكل تفاصيلها، وتبقى صورة الجد وهو يعطيك ربع جنيه بابتسامة، وتبقى ضحكة الأم وهي تضع نصف جنيه تحت وسادتك، وتبقى لحظة الفرح النقي، بلا شاشات ولا تطبيقات، فقط ورقة نقدية صغيرة وقلب كبير يسع العيد كله.

عندما كنّا نسلّم العيدية للأمهات طائعين.. وقلوبنا تضحك قبل وجوهنا
في كل عيد، كانت الأم تنتظرنا بضحكتها التي تشبه صباح العيد نفسه، وكنّا ــ رغم معرفتنا بما سيحدث ــ نسلّمها عيدياتنا الصغيرة، بكل ما فيها من أحلام الطفولة البسيطة، ولم نكن ننسى أنها أخذتها العام الماضي، ولم نشترِ بها شيئًا مما وُعِدنا به، ولكننا ــ ببراءة لا تنكسر ــ كنا نُعيد الكرّة.
تأخذ الأم العيدية، وتقول ذات الجملة التي ما زالت ترنّ في ذاكرتنا حتى اليوم"سأشتري لكم بها ملابس جديدة، أو نذهب إلى جنينة الحيوانات، وربما نُسافر يومًا إلى المصيف".
فنكبر عامًا بعد عام، وتتكرّر الحكاية، ولا نتعلّم. لأننا لم نُعطِها العيدية طمعًا في الفسحة أو اللبس، بل لأن في عينيها وعدًا يكفينا، وفي كفّها دفء لا يُشترى، وفي صوتها وهمٌ جميل كنا نحب أن نصدّقه، حتى لو لم يتحقق، هكذا كانت الأمهات قديمًا، يملكن قلوبنا و"عيدياتنا"، ومع ذلك لا نشعر بالنقص، بل بالامتلاء.

أطفال اليوم.. عيدٌ بلا دهشة وفقدت العيدية سحرها
في الماضي، كانت العيدية بالنسبة للأطفال حلمًا صغيرًا يُنتظر بشغفٍ طوال العام، وكانت لحظة تسلُّمها كفيلة بأن تُضفي على العيد طابعًا خاصًا من البهجة والانبهار.
أما اليوم، فقد تبدّلت المشاعر، وتغيّر المشهد، فلم تَعُد العيدية تُدهش، ولا العيد يُدهِش، وكأننا أمام جيلٍ اعتاد الامتلاك قبل أن يتذوّق لذّة الترقّب.
لا ينتظر أطفال اليوم، العيد، ليحصلوا على لعبة جديدة، ولا يتحمّسون للذهاب إلى الملاهي أو النادي، فكل ذلك متاح لهم طوال أيام السنة، في صورة كيدز إريا مجهزة، أو تطبيق رقمي يُحمّل بلعبة في دقائق، أو نزهة أسبوعية تُخطط لها العائلات كروتين دائم، فلقد أصبح الترفيه نمطًا يوميًّا، فغابت مفاجأة العيد، وتراجعت "خصوصيته".
في جيل الأمس، كان الطفل يبيت ليلة العيد بالكاد يغمض عينيه، مترقبًا العيدية، يفكّر في كيفية صرفها، يُخطط لشراء بالونة، أو دخول السينما الشعبية، أو كيس من الحلوى من البقالة القديمة.
أما الآن، فالكثير من الأطفال لا يكترثون حتى بالمبلغ، بل ينظرون إلى العيدية كما لو كانت شيئًا عاديًا لا يُثير الحماسة، يقول أحد الآباء "أعطيت ابني خمسين جنيهًا في أول يوم عيد، فقال لي هو دا كلّه؟! وأكمل لعبه على الآيباد دون أن ينظر حتى في الورقة النقدية".
ولم يعُد العيد يُمثّل "الفرصة السنوية" كما كان من قبل، فالملابس تُشترى في أي وقت، والهدايا تُرسل دون مناسبة، والكثير من العائلات باتت تُشبِع أبناءها مادّيًّا على مدار العام، فغاب عنصر الترقّب، وبهتت ألوان المناسبة.

ويُرجع بعض المتخصصين هذا التغيّر إلى التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية التي جعلت مظاهر الاستهلاك جزءًا من الحياة اليومية، كما أن الاعتماد المتزايد على التكنولوجيا جعل الأطفال يبحثون عن متعة فورية وسريعة، ما أفقدهم لذة التمهّل والانبهار.
ومع أن العيد لا يزال يحمل روحًا خاصة، فإن تلك الروح باتت غائبة – أو مُخفّفة – في قلوب صغار لم يذوقوا معنى أن تنتظر البهجة لتكتمل، أو أن تفرح بالقليل لأنك لم تألفه.
وأصبح العيد، بالنسبة للكثير من الأطفال، "أشبه بنهاية أسبوع طويلة"، أكثر منه موسمًا للفرح الطازج، والعيدية أصبحت عادة روتينية، لا مفاجأة ولا قيمة رمزية فيها، إلا لمن احتفظ ببعض من دهشة الأمس في قلبه.
0 تعليق