في سنة عيشه الخامسة والسبعين، رحل عن دنيا الناس صاحب “هلوسات ترشيش” الأديب والمترجم والكاتب التونسي حسونة المصباحي.
الروائي المتوّج بـ”جائزة محمد زفزاف للرواية العربية” في أصيلة المغربية، المدينة القريبة إلى قلبه التي خبرها عبر سنوات موسمها الثقافي، تُرجِمت أعمال أدبية له إلى لغات؛ من بينها الألمانية والإنجليزية والفرنسية. وكان في مساره جزءا من مشاريع لتعميم المعرفة الثقافية؛ من بينها “فكر وفن” الألمانية، التي كان سكرتير تحريرها.
ومن بين أعمال المصباحي الأدبية “وداعا روزالي”، و”حكاية تونسية”، و”محن تونسية”، و”لا نسبح في النهر مرتين”. كما كتب أعمالا غير تخييلية من قبيل “رحلة في زمن بورقيبة”، و”إشراقات الثقافة الغربية” و”أنوار الثقافة العربية”.
ومن أواخر منشورات الأديب الراحل “الرحلة المغربية” التي ضمّنها قناعات معيشه التي بناها بعد عقود من معاصرة إشكالات المغاربِ والمنطقة العربية وأوروبا، والأوساط الثقافية والسياسية، كما أرّخ فيها أسماء وأمكنة ومؤسسات تعرف عليها على مر السنين.
“الرحلة المغربية” شهادة يساري جذريّ سابق، ومؤمن سابق بالثورة سبيلا للتغيير، وشهادة مغاربي وعربي على واقع المنطقة، ورؤيته حول إشكالاتها، دون أن يقتصر على السياسة؛ فهذه المذكرات سفر في الرؤى الأدبية، والتاريخية، والتصورات الإسلامية المتطرفة والسلفية الماركسية، أو “الإيديولوجيا” التي “تصيب المتعلق بها بالعماء ليصبح عاجزا عن الإحاطة لا بواقعه الداخلي، ولا بالواقع الخارجي، متوهما أنه (بطل زمانه)، لا يأتيه الخطأ لا من الخلف ولا من الأمام. وكل مخالف له في العقيدة الإيديولوجية عدو لدود يُهدد وجوده”.
وتحضر أسماء مغربية عديدة من عوالم الشعر والأدب والصحافة بالكتاب، عرفها مدونُه، من قبيل: عبد الكريم غلاب، محمد شكري، عبد اللطيف اللعبي، محمد خير الدين، عبد القادر الشاوي، حاتم البطيوي، ياسين عدنان، عبد الجليل لحجمري، الطيب الصديقي، محمد بن عيسى، عبد الكريم الطبال، عبد الكبير الخطيبي، عبد الله العروي، محمد باهي حرمه، عبد الجبار السحيمي، محمد برادة، إدريس الخوري، شرف الدين ماجدولين، عبد الكريم الجويطي، وغيرهم من الأعلام.
في هذا الكتاب وضع الكاتب التونسي حسونة المصباحي جبهة “البوليساريو” الانفصالية بتندوف الجزائرية في إطارها التاريخي، كاتبا: “عرقل هواري بومدين مشروع بناء المغرب العربي الذي كانت تتطلع إليه شعوب هذه المنطقة منذ الاجتماع الخارق للعادة الذي انعقد في مدينة طنجة سنة 1958، والذي حضرته وفود من تونس، ومن المغرب، ومن الجزائر الغارقة آنذاك في حرب التحرير. وتمثلت هذه العرقلة في سلوك سياسة عدوانية تجاه المغرب تحديدا. حدث ذلك منذ بداية استقلال الجزائر. وقد ازدادت هذه السياسة عدوانية وشراسة في أواسط السبعينيات عندما قام هواري بومدين باستدراج بعض الشبان الصحراويين المنبهرين بثوريته الكاذبة والمزعومة لتأسيس ما أصبح يسمى بجبهة البوليساريو، التي سارعت من جانبها بالإعلان عن انفصال الصحراء الغربية عن المغرب”.
ثم استدرك قائلا: لكن الرئيس بومدين “لم يفلح في استقطاب واحد من ألمع مثقفي الصحراء، ومن أعمقهم تجربة وخبرة بالتاريخ، وبالسياسة، محمد باهي”، الذي عرض عليه رئاسة “الجمهورية”، فطلب مهملة للتفكير، وعاد إلى العاصمة الفرنسية باريس ليكتب في اليوم التالي “لا تجعلوا من لينين موظفا لدى فرانكو”، ونشر المقال يوم 3 غشت 1975، حيث “تطرق باهي، بهدوء ورصانة المثقف الواسع المعرفة والثقافة، إلى مسألة الصحراء موضحا منذ البداية أنها مغربية أو لا تكون، نازعا عن النظام الجزائري وعن أي نظام آخر مشروعية التدخل في القضية تحت أي غطاء أو مبرر؛ لأن التاريخ بكل حقائقه وتفاصيله يثبت ذلك بالأدلة القاطعة. وهو يرى أن تأسيس (البوليساريو) لا يخدم مصالح أهالي الصحراء، بل يُلحق بهم أضرارا فادحة، إذ إنه سيفصلهم عن الوطن الأم، ليكونوا في نهاية المطاف بلا حماية وبلا سند”. كما استشهد بمقال آخر لباهي انتقد فيه ما ارتكبه الرئيس بومدين من “حماقة” حينما “اختلق خرافة سماها الشعب الصحراوي العتيد”.
ومن بين ملاحظات الرحّالة حسونة المصباحي عن تغير الزمان الذي يجعل النفَس غير النفس، ولو كان المكان هو المكان: “لا شيء مما كنا نرى وما كنا نسمع يشي بأن تلك الصخرة كانت بابا لما يسميه المؤرخون العرب “فتح الأندلس”. ولذلك، كتب على ظهر بطاقة بريدية لصديق يقيم في باريس: لا شيء يدل على أنه مرّ من هنا. أقصد طارق بن زياد”. ثم علّق: “من أفظع البلايا التي ابتلي بها العرب هو تقديسهم لماضيهم، وافتخارهم بـ”أمجادهم الغابرة”، وافتتانهم بالأساطير والأوهام. ونتيجة كل هذا أنهم فقدوا القدرة والجرأة على النظر إلى ما يسم واقعهم وحاضرهم من محن ومصائب وأمراض خطيرة، جعلت منهم أمة مشلولة الإرادة، عاجزة عن التحكم في مصيرها، وعن صد المخاطر التي تترصدها من كل جانب”.
والنفَس الذي كتبت به هذه الفقرة يحضر في أجزاء أخرى من كتاب الفقيد المصباحي؛ من بينها تعليقه على قراءة ابن خلدون، عربيا: “العودة إلى ابن خلدون تفترض ألا ندرس فكره لإقناع أنفسنا، وإقناع الآخرين الذين أصبحوا أسياد عالم اليوم بأنه كان لنا في القديم مفكرون عمالقة بفضلهم أشعت حضارتنا على العالم، وإنما لكي يكون هذا الفكر مضيئا لنا في عتمة أيامنا الحاضرة، ومحرضا إيانا على بذل المزيد من الجهد لكي يكون فكرنا المعاصر فكرا خلّاقا لا فكرا ناقلا، فكرا متحركا لا فكرا جامدا”.
0 تعليق