أثار تصريح عبد اللطيف وهبي، وزير العدل، بشأن حضور اللغة الأمازيغية في المنظومة القضائية المغربية ردود فعل متباينة في الأوساط الحقوقية والثقافية، بعدما أكد أن الوزارة نظّمت امتحانات خاصة لانتقاء مساعدين اجتماعيين ناطقين بالأمازيغية، بحضور خبراء من المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، في خطوة ترمي إلى تسهيل التواصل مع المتقاضين في المناطق الناطقة بهذه اللغة.
وأوضح وهبي أن إدماج الأمازيغية في المجال القضائي يتم تدريجيًا، مستدركًا بأن الأمر يظل معقدًا في بعض النواحي ويحتاج إلى الواقعية؛ نظرًا إلى أن القضاة لا يمكن إلزامهم باستخدام لغة لا يتقنونها.
وشدد وزير العدل، خلال جلسة برلمانية، على أن حضور اللغة الأمازيغية في الجسم القضائي ليس غائبًا كما يُروّج، موضحًا أن نسبة كبيرة من القضاة والمساعدين ينحدرون من مناطق ناطقة بها؛ بل إن “ثلثي القضاة يتحدثون الأمازيغية”، متسائلًا بلهجة استنكارية: “أليسوا هم أيضًا مغاربة؟”.
وأضاف المسؤول الحكومي أن هذا المعطى يُفند الادعاءات التي تنتقد بطء تفعيل الطابع الرسمي للأمازيغية داخل المحاكم. كما أشار الوزير إلى أن الوزارة راجعت قانون الجنسية، لتمكين طالبيها من الاختيار بين إتقان اللغة العربية أو الأمازيغية؛ وهو ما يشكل سابقة نوعية على مستوى تكريس الاعتراف التشريعي بالمكون الأمازيغي في الهوية الوطنية.
رغم ما حمله تصريح وزير العدل من مؤشرات إيجابية، فإنه لم يُبدّد هواجس فئة واسعة من النشطاء الأمازيغ، الذين اعتبروا أن الوزارة لا تزال تختبئ خلف ذرائع إدارية لإبطاء تفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية، كما أقرّه الدستور.
وأكد هؤلاء النشطاء أن نهج التدرج الذي تتبناه الحكومة بات يفتقر إلى آجال زمنية واضحة وآليات تقييم مرحلية؛ مما يفقد المسار برمّته مضمونه الحقوقي.
وعبّر عدد من الفاعلين الحقوقيين عن خشيتهم من أن تنحصر الأمازيغية في دور وظيفي مؤقت، بدل أن تحظى بالاعتراف العملي كلغة رسمية فاعلة في مرافق الدولة، وعلى رأسها القضاء.
اللغة والعدالة
يوسف أمغار، الباحث في التشريعات الخاصة باللغة الأمازيغية، قال إن تصريحات وزير العدل تعكس استمرار التعامل مع اللغة الأمازيغية كعنصر رمزي، بدل الاعتراف بها كلغة مؤسساتية تضمن للمواطنين حقهم في التقاضي بلغتهم الأم.
وأضاف أمغار، ضمن تصريحه لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن إدماج الأمازيغية في القضاء لا يقتصر فقط على توظيف مساعدين ناطقين بها؛ بل يستلزم إصلاحًا عميقًا يشمل التكوين القانوني، وتأهيل الموارد البشرية، وتوفير ترسانة قانونية ومصطلحية تجعلها لغة قانونية معترفًا بها في الأحكام والمرافعات.
وأوضح الباحث في التشريعات الخاصة باللغة الأمازيغية أن الإدارة المغربية مطالبة اليوم بالخروج من منطق التجريب إلى منطق الالتزام؛ لأن تأجيل تفعيل الأمازيغية في القطاعات الحيوية، وعلى رأسها القضاء، يضرب في العمق مبدأ المساواة أمام القانون.
وأضاف المتحدث أن غياب منظومة تشريعية واضحة لتأهيل المحاكم لاستقبال الأمازيغية يضع المتقاضين الناطقين بها في وضع هش، ويفتح الباب أمام انتهاك حقوقهم اللغوية والثقافية المكفولة دستورًا.
وأشار أمغار إلى أن التأخر في تفعيل الأمازيغية داخل المنظومة القضائية لا يمكن تبريره بالاعتبارات التقنية أو اللوجستية؛ بل يعكس نقصًا في الإرادة السياسية والالتزام الدستوري.
وأكد أن الاعتراف الرسمي باللغة الأمازيغية يجب أن يترجم إلى إجراءات ملموسة تضمن استخدامها الفعلي في المحاكم، من خلال توفير التكوين اللازم للقضاة والموظفين، وتطوير المصطلحات القانونية بالأمازيغية، وتعميم استخدامها في الوثائق والإجراءات القضائية.
وختم الباحث في التشريعات الخاصة باللغة الأمازيغية تصريحه بالتأكيد على أن تحقيق العدالة اللغوية يتطلب رؤية استراتيجية شاملة، تضع اللغة الأمازيغية في صلب السياسات العمومية، وتضمن حقوق المواطنين في التقاضي بلغتهم الأم، بما يعزز الثقة في المؤسسة القضائية ويكرس مبدأ المساواة أمام القانون.
ترسيم مؤجل
من جانبها، اعتبرت مريم أزلاف، أستاذة جامعية متخصصة في قضايا اللغة والثقافة الأمازيغية، أن “ما يُقلق في تصريحات الوزير هو تركيزها على الإكراهات، بدل الحديث عن الالتزامات”، مؤكدة أن “الدولة اختارت ترسيم الأمازيغية بموجب الدستور؛ وهذا يفرض عليها وضع مخططات واقعية محددة الزمن، بدل الاكتفاء بالنيات والتصريحات العمومية”.
وأضافت أزلاف، في حديثها لجريدة هسبريس الإلكترونية، أن التعامل الرسمي مع ورش الأمازيغية لا يزال رهيناً بتصريحات موسمية؛ في حين أن الأمر يتعلق بمسؤولية مؤسساتية تتطلب توجيه موارد بشرية ولوجستيكية وتوفير شروط ملائمة على المستويين القانوني والتنظيمي.
وشددت على أن الإدماج الحقيقي للغة الأمازيغية في القضاء يبدأ من الاعتراف بها كأداة مكتملة في التواصل القانوني والتقاضي، وليس كمجرد لغة “مساعدة”.
وأشارت الأستاذة الجامعية المتخصصة في قضايا اللغة والثقافة الأمازيغية إلى أن العدالة اللغوية داخل النظام القضائي لا يمكن فصلها عن بناء شرعية الدولة الحديثة، معتبرة أن غياب الأمازيغية عن المحاكم يُكرّس نوعاً من اللامرئية المؤسساتية للهوية الثقافية الأمازيغية.
وأضافت أن إدماج هذه اللغة يجب ألا يُختزل في الجانب الوظيفي البسيط؛ بل يُفترض أن يتحوّل إلى مدخل لإعادة هندسة العلاقة بين المواطن والمؤسسة القضائية، عبر الاعتراف الكامل بتعدد روافد الانتماء الوطني.
وأكدت المتحدثة أن مسار ترسيم الأمازيغية داخل القضاء ينبغي أن يتجاوز الإكراهات الظرفية، ليُطرح ضمن سؤال السيادة القانونية والثقافية، لأن القضاء ليس فقط مجالاً لتطبيق القانون؛ بل مجال لصياغة التمثلات الرمزية للعدالة والانتماء. لذلك، فإن أي تأخير في إدماج الأمازيغية هو تأخير في مأسسة العدالة بمفهومها التعددي والمُنصف.
وختمت المتخصصة في قضايا اللغة والثقافة الأمازيغية بالتأكيد على أن “الأمازيغية لا تحتاج إلى مواكبة شكلية؛ بل إلى رؤية مؤسساتية واضحة، تُفعّل ما جاء به القانون التنظيمي رقم 26.16 المتعلق بتفعيل الطابع الرسمي للغة الأمازيغية، داخل آجال معقولة ومضبوطة”.
واعتبرت أن “الانتقال من التنصيص إلى التفعيل يمرّ عبر ربط اللغة الأمازيغية بسياسات عمومية صارمة، تشمل التكوين والتوظيف والإنتاج التشريعي، لأن الكرامة اللغوية جزء لا يتجزأ من المواطنة المتساوية”.
حري بالذكر أن إحصائيات تشير إلى أن وزارة العدل اتخذت مجموعة من الإجراءات العملية الهادفة إلى تعزيز حضور الأمازيغية في المحاكم وتيسير ولوج المواطنين الناطقين بها إلى العدالة؛ فقد تم توظيف 100 مساعدة اجتماعية يتقنّ اللغة الأمازيغية لتسهيل التواصل مع المتقاضين، إلى جانب توزيع 142 عون استقبال ناطقين بالأمازيغية على مختلف محاكم المملكة. كما قامت الوزارة بتعيين 12 موظفًا بمركز النداء لتلقي الشكاوى باللغة الأمازيغية، وتنظيم مباريات خاصة لانتقاء مساعدين اجتماعيين يتقنون اللهجات الأمازيغية المحلية، تحت إشراف خبراء من المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية. وفي سياق تعزيز التكوين، أبرمت وزارة العدل اتفاقية تعاون مع المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية يوم 25 يناير 2022، تهدف إلى إدماج اللغة الأمازيغية في مجال العدالة، من خلال إعداد دليل مرجعي للتكوين والتداريب لموظفي الوزارة، وتنظيم حصص في اللغة الأمازيغية ضمن البرامج التكوينية للمعهد الوطني لكتابة الضبط والمهن القانونية والقضائية.
0 تعليق