من التصوف إلى التمدن .. دراسة تقارب تغير أنماط التدين بالساقية الحمراء

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

قاربَتْ ورقةٌ بحثية حديثة، صدرت ضمن عدد هذا الشهر من مجلة “الباحث للدراسات والأبحاث العلمية”، واقعَ الحالة الدينية والتدين الشعبي بمنطقة الساقية الحمراء، جنوبي المغرب، مؤكدة أن “المنطقة تكتسب قداستها من تعدد المزارات الدينية وتعدد الأولياء الصالحين منذ قرون، باعتبارها مجال استقرار وسياحة لمجموعة من الأولياء والمجاهدين، ما طبعها بخاصية تمثلت في ثنائية الغموض والفعالية”، مضيفة أن “تلك الفعالية هي التي جعلت كلا من أهل بلعمش الجكانيين والشيخ سيدي أحمد الكتاني والشيخ ماء العينين خلال أواسط القرن التاسع عشر يراهنون على هذا المجال للاستقرار بهدف بسط النفوذ على باقي المجال الشنقيطي”.

وأكدت الورقة المعنونة بـ”التدين الشعبي والتحول السوسيوثقافي بمنطقة الساقية الحمراء”، للباحث بكلية الآداب بالرباط عز الدين الكنتاوي، في سياق حديثها عن خصوصية التدين بهذه المنطقة، أن “التصوف يعد من المقومات التاريخية والثقافية والاجتماعية لهذه المنطقة، إذ كان ومازال حاضرا بين النسيج الاجتماعي”، مشيرةً إلى “تميز الصحراء بحركة دينية دؤوبة ومتواصلة تقوم على وحدة المذهب السني والاعتدال الصوفي؛ ومن هنا فقد عرفت الأقاليم الصحراوية طيلة القرون الأربعة الأخيرة حركة صوفية متميزة امتد تأثيرها إلى مختلف مجالات الحياة الصحراوية الاجتماعية والثقافية والسياسية”.

ولفتت الوثيقة ذاتها إلى مساهمة الطرق الصوفية مثل الطريقة القادرية بفرعها الكتاني والفاضلي، والطريقة التيجانية والشاذلية، في “بناء وشائج التواصل بين سكان الصحراء وضفتيها شمالاً وجنوباً، على اعتبار أنها اتخذت من العبادة شعاراً لها باعتبارها الطريقة الدينية الحقيقية التي تربي الفرد تربية حقيقية روحية وربانية وتنمي العلاقات الثقافية، وتساعد على التلاحم الاجتماعي، وتشجع على التمسك بالدين والإذعان لأوامره”.

وأشارت الورقة البحثية إلى اقتران الفعل التصوفي في الصحراء بالزوايا أو الطرق، إذ “لا تكاد ترى شيخاً صوفياً إلا وهو معتنق طريقة أو له زاوية تؤدي أدواراً روحية واجتماعية واقتصادية، ما أطلق على هذه القبائل التي تمثل شريحة هامة من سكان الصحراء اسم: قبائل الزوايا”، موردة أن “هذا الاسم له دلالة اجتماعية نابعة من الوظيفة التي أصبحت تؤديها هذه القبيلة أو تلك حال دخولها في سلك الطرق أو الزوايا الصوفية، فكان للتصوف بذلك دور أساسي في تغيير البناء الفكري والاجتماعي لهذه القبائل”.

وحول دور الانتماء الروحي لأهل الصحراء في تشكيل النسيج القبلي أكدت الوثيقة ذاتها أن “التصوف الصحراوي كان أكثر التصاقاً بالأنماط الإثنية التي أنتجته”، مسجلةً على صعيد آخر أن التحولات السوسيوثقافية التي شهدتها المنطقة أدت إلى فقدان البدو أسلوب الحياة الرعوية والتخلي عن أهم مصدر عيشهم ومصدر ثروتهم الحقيقية، التي لم تتناسب مع الوضع الجديد داخل فضاء الحواضر.

وفي هذا الصدد اعتبر المصدر ذاته أن “عملية توطين الرحل ساهمت في تكسير مجال القبيلة وحدودها المجالية في إطار تنافس القبائل على المجال، وبالتالي قوة القبيلة؛ بل ساهم توطين البدو العشوائي في المدن المحدثة في تفكيك وحدة القبائل الصغيرة، كما ساهم العمل المأجور في خلخلة البناء الاجتماعي التقليدي وتقليص حدة المكانة الاجتماعية، فقد اضطرت الفئات التي كانت متصدرة الهرم الاجتماعي في فترة الترحال أو ‘أهل المدافع والزاوايا’ للاشتغال في مهن كانت تزدريها وتحتقرها”.

كما أشارت الورقة إلى تراجع الأسس المادية والقيمية للقبيلة أمام مفهوم التمدن والتحضر بمفهومه المادي، إضافة إلى تأثير ظهور السلطات المركزية المتمثلة في الدولة على القبائل، معتبرةً أن “الدولة وجهازها الأمني حلّا محل المحاربين؛ فبعد أن أحكمت القوى الاستعمارية الإسبانية قبضتها على مجال الصحراء من خلال إرغامها الرحل على الدخول بالمراكز الحضرية الجديدة أُرغموا على الخضوع لقواعد ومنطق الدولة، وبذلك خضعت القبيلة لنزع السلاح باعتباره لا يساير المفهوم الدولاتي، كما تم وضع حد للصراعات القبلية وتأطير مبدأ العنف داخل مؤسسات الدولة من مقاطعات ومخافر شرطة ومحاكم”.

وأوضحت الوثيقة أن الأولياء الصالحين والفقهاء بدورهم فقدوا الأدوار التقليدية التي كانت منوطة بهم، مثل الوساطة بين القبائل والتحكيم والاستشفاء، لصالح مؤسسات الدولة؛ كما أثر على دورهم أيضاً بروز وتنامي الخطاب السلفي المناهض للولائية ولأشكال التدين التقليدي، وتحكم الدولة في الفعل الديني داخل المجتمع من خلال بناء المساجد وتعيين رجال الدين وتنظيم المواسم الدينية.

وخلصت الدراسة إلى أن “كل هذه العوامل ساهمت في إحداث تحولات في تمثلات الشباب للأولياء والصالحين والأضرحة والزيارات التي تعد أحد أنماط التدين الشعبي؛ وقد كانت لهذه التحولات انعكاسات واضحة على مجمل الحقل الديني على مستوى المعتقدات والتمثلات وتوظيف صورة الولي في مقاصد تتماشى والظرفية الحديثة، في سعيها إلى القطيعة مع الموروث التقليدي وبناء رؤى جديدة”.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق