كوبا، الجزيرة الكاريبية الساحرة، تأخذ زائرها منذ أول وهلة في رحلة عبر الزمن والثقافات، تمتزج في كوبا روعة الطبيعة الخلابة مع العمارة الكولونيالية الأنيقة، وتتراقص فيها نغمات الموسيقى اللاتينية مع دفء الكوبيين وكرم ضيافتهم.
زيارة كوبا ليست مجرد عطلة وسياحة، بل هي تجربة فريدة بالإنسان الكوبي الطيب البشوش والمرح والسعيد في شقائه، بشواطئها الرملية البيضاء الممتدة، وعاصمتها العريقة هافانا، بواجهاتها الملونة وسياراتها الكلاسيكية التي تروي قصص هيمنغواي، خوصي مارتي وغارسيا ماركيز وشي غيفارا وفيديل وأنفاس ضحايا الحصار الأمريكي الظالم.. ما أن تطأ قدماك أرض كوبا حتى تغوص في أعماق ثقافتها الغنية التي تجمع بين التراث الإيبيري والإفريقي واللاتيني، منذ الوهلة الأولى تكتشف أنك أمام شعب يجمع بين تحديات الحياة والبساطة والأنغام والألوان، يعيش اليومي بين الإحالات والتاريخ والفاقة والأمل في قادمٍ لم تعُد واضحة معالمه.
ليس من زار كوبا كما من سمع عنها، أن تكتشف أولى تحديات هذا الشعب، تحدي وجودي، تحدي الجوار مع أقوى دولة في العالم، تحدي الحفاظ على البساطة في مواجهة تعقيدات الحياة والسياسة والجغرافيا، تحدي الاختيار بين العيش الكريم والعيش المُريح، تحدي الاختيار والرقص على أنغام موسيقى “السالسا” الكوبية و”الرومبا” وأقداح الرون الكوبي المعتق وعبق “السيجار”.
انتابني إحساس بالانتماء وأنا أخترق لأول مرة شوارع العاصمة هافانا، كأن المباني الكولونيالية القديمة تدعوني لمعانقتها واقتفاء آثار زوارها من الشعراء والغاوون، خِلتها ترحب بي لأعيش مغامراتهم، لأتذوق نكهات المطبخ الكوبي، ولأتفاعل مع أجواء تختلط فيها السعادة بالشقاء، والأحلام بنهاية الطريق وسواد الليل بشخير الجار الغاشم وعربدته وتهديده المستمر بالويل والبطش والتنكيل، وجوه متعبة لا تخلوها الابتسامة ترحب بزوارها وتدعوهم للاستمتاع بروعة مشاهد غروب الشمس على خلفية مزارع التبغ الشهيرة، وتستغويهم لاستكشاف جزيرة الأحلام حيث يلتقي الماضي بالحاضر وكل المتناقضات في تناغم بديع وغريب ينسج حكايات ومشاهد عجيبة لا تُنسى.
تسللتُ إلى المدينة العتيقة في هافانا صباح العشرين من نوفمبر 2024، الساعة تشير إلى الحادية عشرة صباحا، الوجوه مبتسمة وهي تنتظر في طوابير طويلة دورها لاقتناء حصتها من المواد الغذائية الضرورية في محلات حكومية مخصصة، ضجيج الحياة يعود تدريجيا للمدينة بعد ليل صاخب، وأصوات ترتفع بين الفينة والأخرى بإيقاعات موسيقى كوبية ولدت من رحم البؤس والدفء، كانت وجهتي عملا بنصيحة صديق كوبي أن أستهل زيارتي عبر “زقاق هامل Callejon de Hamel”، حيث استقر الرسام والنحات الكوبي الشهير سالفادور غونزاليس إسكالونا “Salvador Gonzalez Escalona”، وحوَّله إلى تحفة فنية وسط المدينة العتيقة، لوحة جدارية كبيرة بألوان إفريقية فاقعة تستقبل زوار الحي في مدخل الزقاق تتوسطها جملة بحروف كبيرة “سفينة النسيان La nave del olvido”، لوحة بديعة غاية في الجمال وجملة مُعَبِّرة أثارت فضولي ودعتني للتفكير قبل أن أواصل زيارة هذا البلد وهذه المدينة بالذات، فهمت حينها إلحاح صديقي الفنان الكوبي بأن أجعل هذا الحي نقطة انطلاق زيارتي لكوبا من بوابة هذا الزقاق بالعاصمة هافانا.
واصلت رحلتي الاستكشافية إلى قلب هافانا العاصمة الكوبية في صباح الخميس 21 نوفمبر، يوم مشمس وسماء صافية، تمتزج في المدينة ملامح التاريخ العتيق مع إيقاعات الحياة المعاصرة. وقفت أمام مبنى قديم مزخرف بتفاصيل العمارة الاستعمارية بلمساتها الإسبانية والعربية، كنت أشعر كأنني أقف أمام نافذة تطل على عصور مضت. أمامي في الرصيف المقابل تركن سيارة كلاسيكية زرقاء تلمع تحت أشعة الشمس، تبدو وكأنها خرجت من فيلم قديم، مما أضاف إلى المشهد سحرًا لا يوصف.
انطلقتُ من هذا المكان البسيط الذي يحمل في طياته أسرار الماضي ومعالم توحي بأن أحداثه لم تكن عادية. بينما كنت أتأمل الزخارف المعمارية وتفاصيل النوافذ ذات الأقواس العربية المزينة بالفسيفساء الأندلسي، انتبهتُ حينها لرجل عجوز يجلس على كرسي متهالك من بقايا الأثاث العمومي الذي كان في يوم ما يُزين فضاء الشارع الذي يحمل اسم المدينة، كان يراقبني باهتمام ولا تفارق شفتيه ابتسامة غامضة، اقتربت مني حينها امرأة سمراء بدينة ربما في عقدها الخامس تلوك علكا وتردد الترحيب بي في كوبا، “مرحبا بك في كوبا Bien venido a Cuba” جملة تكاد تكون لازمة على أفواه كل الكوبيين والكوبيات حين يتعرفون على الغريب، السيدة تَعْرِضُ تذكارات مصنوعة يدويًا وهي تردد بدون انقطاع بعض المواويل وتدعوني بإلحاح لاقتناء بعضها، أحسست حينها أن شخصا يقف ورائي لفت انتباه السيدة التي أسرعت بالابتعاد، استدرت بسرعة لأجدني أمام الرجل العجوز الذي كان يراقبني من مجلسه على الكرسي المتهالك، وبنفس الابتسامة الغامضة كرر لازمة الترحيب بي في كوبا وهو يشير بإبهامه إلى النقوش التي تُزين المبنى المقابل وبادرني قائلا:
“هذه ليست مجرد زخارف، إنها رموز خفية تحكي قصة عمرها قرون”.
ابتسمت معتقدًا أنها مجرد أسطورة محلية، لكنه أسرع بإخراج ورقة صفراء قديمة من جيبه عليها خريطة قديمة تقود حسب زعمه إلى “كنز المخطوطات الكوبية”، كان يحدق في بإمعان ويمسك بين أنامله بـ”سيجار” كوبي، ملابسه رثة وقديمة لكنها نظيفة وتحتفظ بلمسة فاخرة ككل شيء في كوبا، شعره أشعث وبصوت فيه بحة خاطبني:
“هذه خريطة ستقودك إلى كنز يحتوي على أسرار الثورة الكوبية “.
لم ينتظر العجوز جوابا ولا تفوه بكلمات الشكر التي لا تفارق شفاه الكوبيين، تَفَحَّصَني بابتسامته الغامضة، استلم مني دولارين مقابل خريطة الكنز المزعوم وغادر مسرعا يخترق زقاقا مقابلا يعج بالمارة والباعة المتجولين.
لم أصدق حكاية العجوز كما لم أستطع مقاومة الفضول، قضيت اليوم الأول في التنقل بين الأزقة القديمة، أبحث عن أول موقع في الخريطة. قادتني العلامات إلى مكتبة مهجورة في أحد الأحياء الهامشية من المدينة العتيقة. كان المكان مليئًا بالغبار والمتلاشيات إلى جانب القمامة المتراكمة، المكان عبارة عن ساحة يتوسطها جدار كبير تآكلت جوانبه بفعل الزمن وانعدام الصيانة، رائحة البول والقمامة تزكم الأنوف، لافتة تشير إلى أن الجدار بُنِيَ بعد الثورة تخليدا للشهداء الذين سقطوا في معركة تحرير العاصمة، وفي وسط الجدار كتابات بالحرف العريض مقتطفة من خطابات شي غيفارا وزعيم الثورة الكوبية فيديل كاسترو ورسائل موجهة من الثوار إلى شعوب العالم تحكي عن نضالهم وأحلامهم بعالم أفضل.
توقفت للحظات أمام الجدار الذي يخلد الثورة وأحلامها، عادت بي الذاكرة إلى السبعينيات من القرن الماضي، إلى الجامعة وأحلامنا بعالم أفضل، تذكرت هندامي وأنا طالب بقبعة شي غيفارا، قاومتُ رائحة القمامة والبول وأنا أقف أمام هذا الجدار الذي يخلد ثورة ألهبت شباب العالم في حينها، بدا لي لوهلة وكأن العجوز الكوبي الذي وجهني لهذا المكان يراقبني بابتسامته الغامضة من زاوية الزقاق المقابل، انتابني شعور بالغبن والحزن وأنا أحاول أن أفكك لغز خريطة “كنز المخطوطات الكوبية” أو بالأحرى أقاوم فهم مغزاها وتفادي ألم اكتشاف سراب بنيت عليه آمال وأحلام صنعت كينونتنا، أقاوم فهم رسالة العجوز الذي ناولني خريطة الكنز المزعوم وأرسلني إلى هذا المكان بقصد أو بدونه.
غادرت المكان وتركت ورائي الجدار الذي يخلد ذكرى الثورة وشهدائها، واصلت طريقي نحو ساحة الكاتدرائية وصورة العجوز وخريطة الكنز لا تفارق ذهني، لم يكن كاذبا العجوز الكوبي حين ناولني خريطة الكنز ونصحني بالبحث عنه، كنز كوبا كانت ثورته ولم يبق منها إلا هذا الجدار وشعار بالبنط العريض باللون الأحمر يقف على سطح بناية قديمة وسط العاصمة “الوطن أو الموت Patria o Muerte”. واصلت طريقي في شوارع هافانا القديمة يرافقني إحساس أنني بصدد عبور بوابة إلى عالم آخر، حيث تمزج الأزقة المتهالكة بين بساطة الحياة وصخبها الآسر. رغم البنايات التي تحمل آثار الزمن، بنايات متهالكة تفتقد لأبسط شروط العيش الكريم، إلا أن الحياة هنا تتدفق في كل زاوية وتضج بالألوان وبالموسيقى وبالوجوه التي تبتسم كأنها تتحدى الفقر والجدران المتداعية.
عند مدخل إحدى العمارات القديمة، حيث قد تتوقع أن ترى الصدأ فقط، تُفاجئك لوحات فنية تزين الجدران. هذه اللوحات ليست مجرد رسومات؛ إنها نوافذ صغيرة تعكس روح الإنسان الكوبي، بأحلامه وأحزانه، بفوضاه وجماله. لوحة تجسد امرأة تحمل كتابًا بنظرة متأملة، وأخرى تروي قصة أمومة تختبئ في رمزية الألوان. كيف لجدران فقدت قوتها أن تكون بهذا الصدق والعمق؟ إنه سؤال يطرحه كل زائر لهذه المدينة التي تروي حكاياتها بالفن والصوت والألوان.
هافانا ليست مجرد مدينة، إنها رواية، أبوابها المتهالكة تُفتَح على أغانٍ تنبعث من أعماق الحي، وشرفاتها تحمل ضحكات الأطفال، وأزقتها تصدح بأنغام موسيقى “الجاز” و”السامبا”. في أزقة هافانا العتيقة يتحول الألم إلى جمال، والعوز إلى إبداع. كوبا ليست فقيرة، بل غنية بما لا تستطيع النقود أن تشتريه، حياة تفيض من بين الشقوق، وكبرياء يطل من كل زاوية.
تذكرت وأنا أقف أمام تلك اللوحات أن الفن، حتى في أبسط أشكاله، هو انعكاس للإنسان. هافانا تعلمنا أن الروح الحرة قادرة على صنع الجمال حتى من ركام الأشياء.
هافانا القديمة، بعراقتها وسحرها المتهالك، حملتني في اليوم الثالث من رحلتي الكوبية إلى قلب حكايات لم أكن أتوقعها. مشيتُ في أزقتها الضيقة المبلطة بالحجر، ووجدت نفسي محاطًا بجدران متداعية تكسوها ألوان باهتة تحاول مقاومة الزمن. رائحة الملح والبحر تختلط بصوت خطوات عجوز يجرُّ عربة خشبية صغيرة محملة بحلوى محلية، ينادي عليها بصوت مبحوح كأنما يعاند الزمن والحصار.
عجبتُ لهذه المدينة التي تبدو وكأنها توقفت عند حقبة زمنية لم تغادرها أبدًا. السيارات الأمريكية العتيقة تجوب الشوارع، وكأنها تتحدى الفقر والحظر بسحرها البسيط وأناقتها التي تشي بعظمة ماضٍ يرفض النسيان. رأيتُ وجوهًا تحكي الحكايات، وجه امرأة مسنّة تجلس على شرفة خشبية متهالكة، تعقد شعرها الأبيض بضفيرة وتحمل بين يديها “سيجارًا” عتيقًا. عيناها تتابعان حركة الأطفال في الساحة أسفل المنزل، وكأنها تراقب انعكاس أحلامها التي لم تتحقق في هذه الوجوه الصغيرة.
لم يكن المشهد غريبًا بقدر ما كان مؤثرًا. عازف قيثارة عند زاوية الشارع، يُغني بكلمات حنونة عن وطنه. الصوت يحمل معه شجنًا خفيًا، يلتقي بعيون السياح الذين يستمعون في صمت. شعرتُ للحظة أني غريب داخل حلمه المُتعب، أني أعيش وَهْم الحرية الذي يتناقض مع نظرة طفل يركض حافي القدمين، حاملًا بين يديه كرة صنعها من خرقة قديمة.
المقاهي الصغيرة المنتشرة في الأركان تقدم القهوة الداكنة، بعبق لا تخطئه الأنف. جلستُ على كرسي خشبي صغير، وتناولت فنجان قهوة ساخن بينما كانت موسيقى “السالسا” تتسلل إلى مسامعي من بعيد. كان المشهد متناقضًا حد الإدهاش: البساطة المفرطة، والكفاح المستمر، والفرح المؤقت الذي يُغطي شقوق الألم..
المدينة العتيقة في هافانا ليست مجرد مكان، إنها شعور، صراع وسراب حلم جماعي لشعب يقاوم كل ما يثقل كاهله من حظر وعقوبات، وأيضًا صدى شعارات قديمة كانت تطمح لتغيير العالم لكنها تحولت مع الوقت إلى أطلال تروي قصة التحدي.
بدا لي أن الحياة هنا تتنفس إيقاعًا خاصًا بها، رغم قسوتها. استوقفني طفل يحمل ورقة رسم عليها علم كوبا بألوان زاهية، وكأنما يريد أن يعلن أن الحلم مازال حيًا، حتى وإن عجز عن مغادرة جدران هذه المدينة المتعبة.
هافانا، المدينة التي يتداخل فيها البهاء بالحطام، حيث تختلط العراقة بالوجع. مشهد الشارع الذي عبرتُه اليوم بدا كأنه مرآة تعكس الوجه الآخر من الحلم الكوبي، أكوام من النفايات تتناثر على جانب الطريق، وسط مبانٍ متهالكة تصارع الزمن والعزلة، الهياكل المعدنية الصدئة التي كانت يومًا ما جزءًا من أحلام صناعية، صارت الآن أطلالًا تشهد على تراجع حلم التقدم.
توقفت للحظات أتأمل المكان، أتأمل الجدران التي كانت يومًا زاهية الألوان وفقدت بريقها، تآكلت وباتت تُظهر طبقاتها القديمة كما لو أنها تحكي قصة طويلة من الصمود والخذلان. رجل منحني الظهر يبحث وسط القمامة، يمسك بيده كيسًا صغيرًا يجمع فيه ما يمكن إعادة استخدامه، من بعيد تبدو حركته آلية، كأنها جزء من يوميات لا نهاية لها.
في وسط هذا المشهد الكئيب، كان هناك صدى حياة لا يرحل، صوت طفل يضحك، يركض بين الحطام مع كرة مهترئة، يرسم ابتسامة على وجه من يراقبه. تساءلتُ: كيف يمكن للفرح أن ينمو وسط هذا الخراب؟ كيف يمكن أن تعيش الأرواح هنا وسط ثقل الحصار والجدران المتداعية؟
المكان بدا لي لوحة حزينة مرسومة بألوان متناقضة، خلفية من البؤس ولكن عليها لمسات من الحياة، زهور برية تنبت على حواف الطريق المليء بالنفايات، كأنها تصر على إعلان استمرار الحياة رغم كل شيء.
المشهد دفعني للتفكير بعمق: هل هذا الخراب نتيجة الحصار فقط؟ أم أنه أيضًا انعكاس لحلم حمل أعباءه أكثر مما يحتمل؟ هنا، يتداخل الماضي المثقل بالشعارات مع حاضر متعب يشق طريقه بصعوبة وسط أكوام القمامة والأحلام المكسورة ومستقبل غامض ومجهول.
هافانا القديمة ليست فقط مبانيها المتهالكة وأزقتها الضيقة، بل هي قصة شعب يحيا على الحافة، يمزج بين الاستسلام والمقاومة، بين البؤس والفرح المؤقت. شعرتُ وأنا أغادر المدينة أن كل خطوة أخطوها تنقلني ليس فقط عبر المكان، بل عبر طبقات متراكمة من التاريخ والوجع الإنساني وأحلام تُبحر على متن سفينة النسيان.
0 تعليق