كما الشاي له متحفه بمراكش.. النكهات المَلِكاتُ تليق بأذواقها الشاعرة
في واسطة عقد المثلث الذهبي للمدينة العتيقة لمراكش البهجة، تنبت شجرة وارفة أخرى من أشجار خبير المعمار المغربي والأندلسي الأستاذ عبد اللطيف آيت بنعبد الله.
انبثاق فكرة ناذرة نبعت من ذاكرة العمارة وفن العيش بمراكش، وهو متحف الشاي 1112، الذي انجلت رياحينه الأربعاء 11 دجنبر 2024، في افتتاح فضائه رسميا، بحضور مثقفين وإعلاميين وفنانين، هبوا جميعا للإصغاء لفتنة الشاي وتلاوينه وعباراته السابحة في ذرى الجمال والبهاء.
المتحف إياه، ميسم رياض تقليدي من عبق القرن الثامن عشر، يجاور المدرسة التاريخية العظيمة ابن يوسف، على سعة نابضة بأرواح الآباء والأجداد، تنبري أطيافها الحميمية لتسحبك بكل حنو ورحمة إلى صحن مأسور بسماء واسعة، وسقوف متلألئة وضاءة، تحفر بعيدا في ثقافة مهيبة وهوية بصرية لا مثيل لجمالها ونقائها.
في أتون متحف الشاي ذاك، يصر آيت بنعبد الله على استعارة مناقب الأعشاب والتوابل، بأصنافها ومناجمها العبقة، مكرسا بذلك بلاغة الانتماء لمغرب مراكشي حتى النخاع. فالرقم الذي يحمل هوية متحف الشاي (1112) مسنود على جذور دامغة، نقشت آياتها على سقوف الرياض. حيث التمع وشم الرقم السري، نافذا إلى أعماق الوصف، حاضرا في السياق البصري والثقافي.
ينبش آيت بنعبد الله في مسالك التراث، يحتويه بين الأضلع والقلب، فيدنو إلى الفكر، غير بعيد عن سرد حكاية أو ترميز أو إحالة سخية، سرعان ما تتعرش، وتنمو، فتحقق ما تأمل، من الفورة والإبهار والتمدد في الكينونة. هكذا اتسمت تجربة طلعة المتحف بقبلة الراغبين في تذوق نكهات الشاي المتعددة، بتعدد جهات المملكة، وتربع حضارتها على بهارات ونثارات الأزمنة والأمكنة والأحداث المتعاقبة.
ولأن الحدث غير مسبوق، تجلوه بعض من مثاقفات كونية متجاورة ومتبادلة، أقلها امتدادات في اختيارات بعض شعوب آسيا، كاليابان والصين، أو أوروبا كفرنسا وإنجلترا، بحسب رأي آيت بنعبد الله، فإن نفائس “شاينا المغربي المتعدد والمبهر”، بأصوله وطرق تحضيره والتقائيته بالطباع والتقاليد والأعراف والدين، يظل الأكثر عبرة واعتبارا، والأبهى توقدا وانجذابا، حيث “ينطق بالذوق ويعبق باللذة”، عبر أطاييب فناجين (كؤوس) لا تأسرها الحدود ولا تعتورها قيود النمطية وأمداؤها.
وللنكهات في عشق الشاي بالمتحف 1112، ما يؤصل هذا التماهي ويدنيه من حالات الشعر ونظمه الباذخة. وهي الأقرب إلى النكهات (البحور الشعرية) المتلاطمة، بين جهات مختلفة ومتنوعة، ثقافة وجغرافيا وطقوسا وميادين. ففي قلعة مكونة يغلب حبق الورد ونعناع الأرض وقرنفلها ونافعها. وفي الصحراء علك الرواء ونفائس الشيح وورق النبق. وفي مراكش نظام إعداد الشاي التقيليدي بالنعناع البلدي واللويزة وغيرها. وفي الشمال أنماط أخر.. كذا في الغرب كما الشرق…
لا يختزل المتحف هذا الطريق المفرد للتخصيص الذوقي الطعامي فقط، بل ينفتح على استلهام أسس حكيمة، تضع الأدوات المنتجة للشاي، وتاريخها ونظامها الخاص، حيث عمل على إيلاء “متحف الأواني التقليدية” اهتماما جوهريا، تفرد بعرض مجموعة منها، بعضها استقدم من إنجلترا، التي كان التجار المغاربة يترددون عليها، منذ أزمنة بعيدة، تعود بعض المصنوعات إلى سنة 1830. من بينها أيقونات ثمينة القيمة والنوع، بصمتها أيادي الصانع التقليدي الأسطوري محمد بلعربي.
ولتاريخ الضيافة ومعالمها، سموق لافت في المتحف، حيث تتقاسم أباريق الشاي المختلفة، وكؤوسه المزخرفة وغير المزخرفة، وأواني إعداد الشاي، من البراد إلى أباريق النعناع و”التخالط” و”السكر” و”الأطباق”… نبضات تهمس، متوجسة خيفة أن تمسها ريح الشتاء وجنونها المزدحم بهفهفة الفرح وآثاره الخفيفة على النفس.
وكعادته، ينماز الفضاء عند آيت بنعبد الله، في كل ارتقاء وعبور بتوشيح ثقافي وكتابي لا ينضب ولا يلين. فقد قدّر واستدق في نور العقل بالوعي والتلقي، ما يؤسس على الدوام مشاريع الاستحقاق وتنمية الإنسان، بما يجعل كل قوانين الوجود قائمة على التزكية النورانية ونشر المحبة والتعلق بأهداب الأصالة. وهي قناعة لا تنفك تستقوي جديدا بمتحف الشاي، الذي يريد له أن يكون بالتجاور مع مدرسة ابن يوسف التاريخية، نجما غير شارد أمام قمر النجوم.
0 تعليق