عادت نقاشات استدامة المالية العمومية وتوازنات التحكم في مسارَيْ المديونية وعجز الميزانية إلى الواجهة، مع تتبّع أول مجلس حكومي خلال سنة 2025 “حصيلة أولية” لتنفيذ قانون مالية سنة 2024، الذي أبرزت الحكومة أنه “تم في سياق صعب عرف مواجهة الاقتصاد الوطني لدينامية دولية مطبوعة بنمو معتدل بسبب تزايد المخاطر الجيوسياسية والمناخية”، وفق تعبير بلاغ للناطق الرسمي باسم الحكومة.
ووفق البيانات الرسمية التي استعرضها مجلس الحكومة، كشف فوزي لقجع، الوزير المنتدب لدى وزيرة الاقتصاد والمالية المكلف بالميزانية، أن عجز الميزانية استقر، خلال سنة 2024، عند 4 في المائة بفعل “الموارد العادية”، التي تمكّن المغرب على ضوئها من إبقاء معدل المديونية مستقرا في المستوى المسجل خلال 2023 بـ69,5 في المائة من الناتج الداخلي الخام في متم السنة المنصرمة.
وأكدت الحكومة أنها “واصلت التزامها بإعادة توجيه مسار ماليتها العمومية نحو المزيد من الاستدامة”، مع تنفيذ قانون مالية 2024 “رغم السياق الدولي المضطرب”، مشيرة إلى أنه “وفقاً للوضعية المؤقتة لتنفيذ قانون المالية لسنة 2024 واصل عجز الميزانية منحاه التنازلي ليستقر في 4 بالمائة من الناتج الداخلي الخام برسم 2024 مقابل 4,3 بالمائة برسم 2023. وأرجعت التحكم في عجز الميزانية إلى تحسن الموارد العادية بأزيد من 47,4 مليار درهم (بنسبة 14,6 بالمائة مقارنة بـ 2023).
عوامل الاستقرار
واضعاً الحصيلة الحكومية الأولية تحت مجهر التحليل، أقام عبد الرزاق الهيري، مدير مختبر “تنسيق الدراسات والأبحاث في التحليلات والتوقعات الاقتصادية” في كلية الاقتصاد بفاس، ربطاً دالّاً بين التحكم في “مستوى المديونية” وكذا مسار “العجز في الميزانية”، لافتا إلى “الارتباط الوثيق بينهما”.
وحسب الهيري، فإن أرقام حصيلة تنفيذ قانون مالية العام الماضي تعكس “استقرار نسبة المديونية نتيجة عوامل عديدة، أبرزها يعود إلى تطور إيجابي في العائدات، خصوصًا العائدات الجبائية، مما يثمر تخفيف الضغط على الحكومة قبل لجوئها للاقتراض، سواء الخارجي أو الداخلي، مع ضمان تحقيق أهداف نسبة مديونية أقل من 69 بالمائة في أفق 2026، وتحقيق نسبة عجز أقل من 4 بالمائة بحلول الأفق الزمني نفسه”.
“من المأمول أن يستمر هذا التحسن في التحكم في العجز والمديونية”، يقول أستاذ الاقتصاد لجريدة هسبريس، قبل أن يضيف مستدركا “لكن هذا الاستمرار في تحسن المؤشرات يعتمد على التطورات الاقتصادية، خاصة ضرورة تمويل استثمارات كبيرة وعمومية في البنيات التحتية لعصرنة الاقتصاد الوطني وتحسين جاذبيته، فضلا عن الاستعداد لتنظيم تظاهرات رياضية”.
المديونية والضريبةُ
ويرى مدير مختبر التوقعات الاقتصادية بجامعة سيدي محمد بن عبد الله أن “التحسن في مؤشرات المالية العمومية رهين باستيعاب الفاعل الحكومي، كسلطة مالية، لكيفية الاستعمال العقلاني للموارد بغية تقليل الاقتراض واللجوء إليه”، مستحضرا “تأثير توالي سنين الجفاف على ارتفاع النفقات العمومية، كما يمكن أن يؤدي إلى تباطؤ نمو العائدات الجبائية، مما قد يدفع الحكومة إلى مزيد من الاقتراض”.
وأوضح أن “استمرار التحسن مرهون أيضا بمدى نجاعة أداء وحكامة النفقات العمومية”، مشيرا إلى وجوب “الاعتماد على مبادئ الحكامة الجيدة في السياسة المالية (وفق ما أقرّه القانون التنظيمي لقانون المالية) لتحقيق الأهداف المرجوة”.
ولم يفت الهيري أن يسجل “تباين الأرقام المسجلة بين الحكومة وتوقعات بنك المغرب خلال اجتماعه الفصلي الأخير نهاية شهر ديسمبر 2024″، مستنتجاً أن “أرقام الحصيلة الأولية الحالية تُظهر نتائج أفضل من التوقعات”.
“التحكم في نسبة المديونية يَمنح الاقتصاد مرونة كبرى في تنفيذ السياسات المالية”، يقول المتحدث، مشيرا إلى أن “الديون تؤثر سلبًا على الإنفاق الاستثماري، مما يجعل خفْضَها ما أمكن عامل تطويرٍ لأداء السياسة المالية والميزانياتية.. ولأن مديونية اليوم هي ضريبةُ الغد”.
مستوى الخطورة
قال بدر الزاهر الأزرق، محلل اقتصادي وأستاذ باحث في علوم التدبير وقانون الأعمال، “إنْ كان من شيء يُحسَب للحكومة الحالية فهو كونها رَكزَّت على التحكم في العجز المالي من خلال تحسين النظام الضريبي”.
وأبرز الأزرق، في تصريحه لهسبريس، أنه “تم توسيع قاعدة المساهمين في استخلاص الضرائب خلال سنة 2024، مع مواصلة جهود استدماج أنشطة ومهن القطاع غير المهيكل”، و”تقليل التهرب الضريبي”، لافتا في السياق ذاته إلى “تخفيف العبء الضريبي على الموظفين العموميين والأجراء في القطاع الخاص، لاسيما عبر مراجعة الضريبة على الدخل”.
كما استدل بأن ارتفاع الموارد المالية تدعمُه “حصيلة متميزة لما تم التصريح به في إطار التسوية الطوعية للوضعية الجبائية من خلال تحقيق 127 مليار درهم اليوم، تم استخلاص أكثر من 6 مليارات درهم لصالح الخزينة، مما سينعكس إيجابا على المالية العمومية سنة 2025″، مضيفا إليها مراجعة طرق استخلاص الضرائب في المهن الحرة مثل المحامين والأطباء، مع “استخدام الموارد المبتكرة مثل المِلك الخاص للدولة لتقليل الاعتماد على الاستدانة الخارجية”.
“المشاريع الكبرى في المغرب تتطلب تمويلًا إضافيًا مما يدفع الحكومة للاستدانة”، يرصد الأزرق، معتبرا أن “الاستدانة الخارجية، رغم أنها قد ترتفع بحكم ما تتطلبه الأوراش الكبرى من بنيات تحتية طرقية ورياضية وسياحية، فإنها لا تشكل خطرًا كبيرًا على توازن المالية العمومية في المغرب”.
و”مِن المتوقع أن تنخفض الاستدانة والمديونية بعد عام 2030، رغم زيادتها الطفيفة في السنوات الخمس المقبلة بنسبٍ متحكم فيها، مع استمرار تحسن المداخيل الضريبية والموارد الجبائية العادية والاستثنائية”، يقول الباحث ذاته، لافتا إلى “إيجابيةَ الإصلاحات الضريبية الحالية في تحسين السيولة التمويلية في الاقتصاد وتقليص متدرج لحجم القطاع غير المهيكل”.
0 تعليق