تستمر الرياح العاتية في تأجيج وتوسيع نطاق الحرائق المستعرة منذ الثلاثاء ما قبل الماضي بلوس أنجليس بولاية كاليفورنيا في الولايات المتحدة الأمريكية، وفي “إشعال” الفرح في قلوب كثير من العرب، بمن فيهم مغاربة، يعتقدون أن هذه الكارثة الطبيعية التي خلّفت دماراَ كبيراَ في البنية التحتية، “يكاد يماثل في الصور المبينة له تلك الواردة من غزة”، تجسيد “لعقاب إلهي لبلاد العم السام” على دعمها حرب الإبادة الجماعية التي شنتها إسرائيل على القطاع.
ما عبّر عنه هؤلاء في مناشير على حساباتهم بمواقع التواصل الاجتماعي طيلة الأيام العشرة الماضية، فضلا عما يثيره من تساؤلات حول “واقعية الربط بين كارثة طبيعية والحرب سالفة الذكر المرتقب أن تضع أوزارها الأحد المقبل مع بدء سريان اتفاق وقف إطلاق النار، الذي صدر عن مواطنين أمريكيين من ديانات أخرى أنفسهم”، طرح “إشكالية تناسب الشماتة التي عادة ما تعقب مثل هذا الربط مع القيم الإنسانية التي ينتصر لها الدين الإسلامي”.
وفي إجاباتهم عن هذه التساؤلات المرفوعة لا يتجاهل باحثون في الشأن الديني “كون القرآن الكريم أكدّ أن الإنسان قد يحصد ما ارتكبه من إذايةِ مصائب”، غير أنهم يؤكدون “صعوبة الجزم في ما إذا كانت الكارثة الطبيعية التي تضرب أمريكا عقابا إلاهيا”؛ فيما يؤكد آخرون “على الحاجة إلى التريث وتغليب العقلانية، بما أن المنطقة معروفة في نهاية المطاف بالحرائق الناجمة عن التغيرات المناخية”، داعين إلى “نبذ الشمانة التي تخالف مقاصد ورسائل الإسلام”.
“حاجة إلى العقلانية”
خالد التوزاني، رئيس المركز المغربي للاستثمار الثقافي، أكدّ بداية أن “ربط الكوارث الطبيعية، مثل حرائق لوس أنجليس، بالعقاب الإلهي ليس جديداَ، إذ اعتادته كثير من من مناطق العالم، وهو ينطلق من خلفيات دينية بالأساس؛ إذ تحفل الكتب المقدسة بأخبار الأمم السابقة التي أهلكها الله بسبب أعمالها غير الخيرة”، مُستحضرا أن “نسب الحرائق المذكورة للعقاب الإلهي لم يصدر عن الشعوب العربية والمسلمة فقط، بل كذلك من مجتمعات غربية”.
وسجّل التوزاني، وهو أستاذ جامعي، في تصريح لهسبريس، أنه “في الولايات المتحدة الأمريكية نفسها انتشرت مواقف بعض الشخصيات الأمريكية التي تقول إن حرائق لوس أنجليس عقاب إلهي لأمريكا عن مساعدتها إسرائيل في حرب الإبادة التي شنتها على غزة، ودعت إلى إعادة النظر في الموقف الأمريكي”.
وشدّد المصرّح عينه على أنه “ينبغي عدم التسرع، والتعامل مع مثل هذه الحرائق بعقلانية، من خلال فهم أسبابها العلمية والعمل على تفاديها أو تقليل آثارها، مع التركيز على القيم الإنسانية المشتركة مع المتضررين، وخاصة قيم التسامح والتضامن والمحبة”، مُفيدا بأنه “بفعل عوامل بيئية ومناخية مثل الجفاف والتغير المناخية تشهد هذه المنطقة من العالم حرائق بشكل دوري، بغض النظر عن الأحداث السياسية أو الأخلاقية القائمة حاليا”.
وفسّر المتحدث ذاته المواقف التي ربطت بين حرائق لوس أنجليس وقضية فلسطين، ورأت أن هذه الحرائق عقاب إلهي، بأنها “تعكس عدم الرضا عن السياسة الدولية لأمريكا، وتعبر عن عدم المسؤولية تجاه ما يحدث في غزة من إبادة جماعية، كما تعبر عن العجز وعدم القدرة على وقف الحرب”، معتبرا أن “تعلق الإنسان بتفسير ظاهرة أو حادث على أنه عقاب إلهي نوع من الحيل النفسية التي تجعله يشعر ببعض الاطمئنان”.
واستدرك التوزاني بأن “المبالغة في مثل هذا الربط قد تؤدي إلى ظاهرة الشماتة بالآخرين، والتلذذ بمعاناتهم والتطرف والعنصرية والكراهية… وغير ذلك من أمراض القلوب، بينما الإسلام لم يكن يوما دين انتقام وشماتة”، مشددا على أنه “في نهاية المطاف الله وحده الذي يحاسِبُ عباده، ولا يحق للبشر أن يفرضوا وصايتهم على خلقه”.
كما قال الأكاديمي ذاته إن “المشكلة التي قد يثيرها هذا الربط تكمن في توجيه الدين سياسياً، أي محاولة تحقيق مصالح سياسية عبر استغلال مضامين دينية لها سياق مختلف، وتنزيلها في واقع مغاير بقصد الإساءة أو التلاعب بالقلوب والعقول”، معرجا على أن “قدرة الله على عقاب خلقه أمر بديهي، ولا تحتاج إلى كوارث مرئية، فقد يكون العقاب خفياً غير منظور، بل إن الأكثر من العقاب هو ألا يشعر المرء بالعقاب”، بتعبيره.
“صعوبة الجزم”
وأكد عبد اللطيف الوزكاني، باحث في العلوم الشرعية، أن “الحساب أو العقاب أمران بيد الله؛ فهو قد يعذب الإنسان المسلم بسبب فعل من أفعاله كما قد يعذب غير المسلم، وبالكيفية التي يريد عز وجل؛ غير أن جزم الإنسان بكون هذا المصاب (حرائق لوس أنجليس) عقابا إلاهيا إنما يُسقطه في منازعة الله في علم الغيب”، وفقه.
الوزكاني، في تصريحه لهسبريس، استحضر قول الله عز وجل في سورة الشورى: “ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم”، وفي سورة النساء: “ما أصابك من حسنة فمن الله، وما أصابك من سيئة فمن نفسك”، شارحا أن الآيتين تعنيان أنه “إذا عمد الإنسان إلى الإذاية أو فعل السوء فإنه يأتي عقاب من عند الله بما كسبت يداه”، مُبرزا أنه “مع ذلك لا يمكن ولا يجب للإنسان الجزم بكون كارثة طبيعية ما عقابا من الله”.
وأوضح الباحث في العلوم الشرعية أن “الشماتة، بمعنى فرح الإنسان بإصابة بني جلدته بالأذى أو الضرر يوميا، ليست من شيم الإسلام، وهي حرام في نهاية المطاف”، مؤيدا بدوره ما ذهب إليه التوزاني بخصوص كون “الكوارث الطبيعية والحوادث الطارئة تستدعي أولا المبادرة إلى التضامن مع المتضررين؛ وهو ما تجلى في مبادرة المغرب إلى تقديم المساعدات اللازمة لإسبانيا غداة فيضانات فالنسيا، وفي مساعدته في عملية إعادة بناء كاتدرائية نوتردام بفرنسا”.
0 تعليق