قرن على "المدرعة بوتمكين"

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

الشعب بطلا، ثم صارت الكاميرا بوقا

تم تشخيص موضع الفساد بوضوح: اللحم فاسد. قرار: يجب على البحارة تناوله.

يكشف هذا الإكراه فسادا من مستوى آخر في روسيا وفي كل بلد. يبني هذا الربط على استعارة وأسلوب تفسيري، بمعاينة البيانات على الشاشة، عن علاقات الارتباط بين متغيرين أو أكثر. متغير بيولوجي في اللحم ومتغير سياسي في المدرعة بوتمكين، 1925 للمخرج سيرجي إيزنشتاين.

لإثبات الصدى العالمي للفيلم: عرض “المدرعة بوتمكين” لمدة عام في برلين بألمانيا. أثر الفيلم على السينما الأمريكية، وقد عرض طيلة 16 أسبوع في نيويورك (عن كتاب البارجة بوتمكين تأليف الناقد الفرنسي Barthélémy Amengual). بل دعي المخرج للقاء شارلي شابلن في هوليود. (شابل، شارلي، قصة حياتي، ترجمة كميل داغر، المركز الثقافي العربي، ط1، 1994، ص 298-299).

رفض البحارة الجياع تناول لحم الثور الفاسد (تذكر لقطة الثور بلوحة الثور للرسام الهولندي فان راين رامبرانت وفيها ثور مذبوح معلق)، جاء طبيب البحرية وفحص ذيل الثور المتعفن بنظاراته، لا مشكلة”… لم ير الطبيب الدّود الذي يراه البحارة بالعين المجردة…. اندلعت ثورة فنية وسياسية صامتة بالأبيض والأسود أثمرت تحفة السينما العالمية التي مر قرن على صدورها وما زالت تحتل موقعا راقيا في مقررات معاهد تدريس السينما باعتباره الفيلم الأكثر اقتباسا ومراجعة في مجال المونتاج وهو اللّحمة بين اللقطات. المونتاج هو جوهر السينما وعصب اللغة السينماتوغرافية.

السياسة والدعاية

سياسيا، صور إيزنشتاين تبعات قطرة دم صارت ثورة. شهيد القمع يشعل ثورة قتل المحرض على التمرد ونقل إلى مدينة أوديسا على البحر الأسود وعلى بطنه ورقة كتب عليها “من أجل ملعقة حساء”… هكذا انتقل التمرد من البحر إلى البر الروسي… جرى ذلك فعلا في 1905 وحوله إيزنشتاين بطلب من القيادة السوفياتية إلى فيلم عام 1925… فيلم طبع تاريخ السينما وبصم تاريخ التحريض السياسي معا بواسطة الفن الملتزم… وقد تكرر مشهد قطرة الدم ثم التمرد في القرن العشرين والقرن الحادي والعشرين.

كان الفيلم تمجيدا لثورة الشعب، ورسالة فيلم البارجة بوتمكين هي “أيها البحار لا تطلق النار على أخيك البحار”.

ما العمل؟

الجواب: أطلق النار على الجلاد.

هنا صار الشعب البطل، بطولة جماعية هزمت القمع. بالنسبة للفكر السياسي اليساري فالجماهير الشعبية هي التي تصنع التاريخ وتحقق الوعد بالعدالة…. هنا نجح إزنشتاين في الدعاية السياسية التي تتجنب الخطابة والمباشرة. بعدها أصدر الضابط المُنظر أندري جدانوف في 1934 بيان الواقعية الاشتراكية ففقد الفنان السينمائي السوفياتي حريته الإبداعية لصالح أيديولوجية الحزب. صارت الكاميرا بوقا.

الفن والمونتاج

فنيا، بدأ المخرج إيزنشتاين بفن المسرح؛ لكنه استنتج مبكرا أن المسرح لا يمكنه تذويب الفن في الواقع. لذا، انتقل إلى السينما. يمكن عرض فيلم في عدة قطارات جوالة بالبلاد دفعة واحدة، وهنا تتجاوز السينما المسرح الذي يقوم على عرض حي واحد يشترط حضور الممثلين جسديا.

كانت السينما وسيلة للتغيير بالنسبة لإيزنشتاين. كان طليعيا يهتم بالشكل أيضا، فقد عاصر الشكلانيين الروس في الأدب (انظر كتاب “نظرية المنهج الشكلي.. نصوص الشكلانيين الروس”، ترجمة إبراهيم الخطيب).

وهذه الطلائعية المستقبلية (avant-gardiste) هي التي جعلته يعطي قيمة كبيرة للهندسة الفنية للمونتاج، حتى أنه يستحيل العثور على كتاب يتحدث عن المونتاج ولا يبدأ يذكر منجز إيزنشتاين.

كان أيزنشتاين مخرجا مثقفا مؤلفا، خلف نصوصا تغطي 3900 صفحة مكتوبة، بين فيها أن العلاقة بين اللقطات أهم من اللقطات. لقطة زائد لقطة تساوي ثلاثة تصنع مفاجأة. هكذا نظر المخرج المؤلف لفنه، (هذا قبل أن يظهر مخرجون يصنفون أنفسهم ضمن سينما المؤلف دون أن يؤلفوا كتابا أو رواية).

يعتبر أيزنشتاين أن الحبكة (L’intrigue) تتشكل من مقاطع مستقلة تنظم في مونتاج يضمن المفاجآت. مونتاج يهتم ليس بتقديم الأحداث بل بالتفكير فيها. عندما يحكي المخرج بالصور، لا يستنسخ الواقع، بل ينتقي ما يدعم وجهة نظره.

يكسر البحار الجائع بعف رهيب الصحن الذي يستشهد بخبز المسيح أبينا النازل من السماء…. هنا تحضر وجهة نظر المخرج كموقف وكلمسة فنية في توالي اللقطات القصيرة العنيفة لعكس غضب البحارة. غضب سياسي يجسده تتابع أفعال يوفر استمرارية continuité للقطات المتتابعة، والنتيجة هي أن ذلك الترابط والتناسق الرشيق يخلق الإيقاع الذي يؤثر في المشاهد.

المونتاج هو إعادة تركيب synthèse ما تم تقطيعه découpage. لا يجري تصوير لقطات الفيلم بنفس الترتيب الذي تعرض به، تصور اللقطات تبعا للأمكنة في الفيلم ولاحقا يقوم المونتير بتركيبها، بتوضيبها بتجميعها لتظهر في متوالية سردية دالة..

ما منطق التركيب؟ من وضع أسس المونتاج؟

هم ثلاثة: الأمريكي غريفيت Griffith صاحب فيلم “ميلاد أمة” 1915. الروسي إيزينشتاين Eisenstein صاحب فيلم “البارجة بوتمكين” 1925. الفرنسي غانس Gance Abel صاحب فيلم “نابليون” 1927.

ما الذي يجمع هذه الأفلام؟ كلها سياسية.

كل تلك الأفلام سياسية. المونتاج فلسفة وسياسة لخلق وحدة unité سردية درامية بالصور كما في مشهد سلالم أوديسا.

تلحمُ السياسة الأفراد ويلحَم المونتاج اللقطات.

إن منطق المونتاج هو انتقاء وتنظيم توالي الصور لتصبح دالة. صور توجد بينها صلة سببية ودلالية، يوجد بينها رابط بصري، وهذا ما يسمى les raccords لبناء اللغة السينمائية.

ممّ يتكون معجم نحو الجملة السينمائية؟

إنه تجميع صور ذات حمولة سردية تتابع وتترابط… لقطات من سلالم مختلفة تمتد من لقطة عامة…. هذا النحو هو الذي يخلق الجملة السينمائية… المونتاج هو غرفة جراحة الفيلم، هو انتقاء من الكتلة… قطع ورمي الزمن الميت… لكن القطع والانتقاء سيؤدي إلى تفكك الوقائع وتباعدها، لذا يجب أن يتم الربط بينها بقوة، بواسطة “الزمن بوصفه القوة المنظمة الوحيدة للتنامي الدرامي”.

إن الزمن الذي يربط ويبين العلاقة بين الأحداث، يقوي العلاقات السببية التي تأسر المتفرج.

كانت السينما وسيلة للتغيير بالنسبة لإيزنشتاين؛ لكنه لم يكن مع الفن التحريضي المباشر، عندما سيطرت البيروقراطية الحزبية الشيوعية على السينما في موسكو انتقل إيزنشتاين للتدريس… هذا ما يفسر كون بداياته كانت أقوى فنيا. منذ ذلك الحين، تدهورت السينما سوفياتية، ثم لاحقا تدهور النظام السوفياتي. وهذا ما التقطه فيلم يليق بتاريخ روسيا الدموي.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق