المستشار خالد خلاف يكتب: الوساطة الحل الأمثل لفض المنازعات بين التقاضي والتحكيم

الحادثة 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تُعد الوسائل البديلة لفض المنازعات من أهم الآليات الحديثة التي تسعى إلى تحقيق العدالة الناجزة وتقليل الأعباء على المحاكم. 

وتأتي الوساطة كواحدة من أبرز هذه الوسائل، حيث تعتمد على تدخل طرف ثالث محايد لمساعدة الأطراف في الوصول إلى حل ودي لنزاعاتهم.

وتختلف الوساطة عن التقاضي والتحكيم في طبيعتها وآلياتها ومدى إلزامية نتائجها. 

تهدف هذه الدراسة إلى تحليل مفهوم الوساطة، والتفرقة بينها وبين وسائل فض المنازعات الأخرى، وبيان موقف التشريعات المقارنة منها، بالإضافة إلى دراسة موقف التشريع المصري من الوساطة.

أولًا: مفهوم الوساطة وأهميتها :

الوساطة هي عملية تفاوضية غير إلزامية تهدف إلى تسوية النزاع بين الأطراف من خلال طرف محايد (الوسيط) الذي يساعد في تقريب وجهات النظر دون أن يكون له سلطة فرض الحلول. وتكتسب الوساطة أهمية متزايدة في المعاملات التجارية، المدنية، وحتى الجنائية في بعض التشريعات، لما توفره من مرونة وسرعة في إنهاء النزاعات.

ثانيًا: التفرقة بين الوساطة والتقاضي والتحكيم :

1. التقاضي : يُعد التقاضي الطريقة التقليدية والأكثر شيوعًا لفض المنازعات، حيث يلجأ الأطراف إلى المحاكم لحسم النزاع من خلال إجراءات قانونية محددة تضمن تحقيق العدالة وفقًا للنظام القضائي المعتمد. ويتميز التقاضي بطبيعته الإلزامية، إذ تصدر المحكمة أحكامًا نهائية وملزمة يمكن تنفيذها جبريًا، مما يضمن حماية الحقوق القانونية للأطراف. ومع ذلك، فإن هذه العملية غالبًا ما تتسم بطول الإجراءات وتعقيدها، فضلًا عن ارتفاع تكاليفها مقارنة بالوسائل البديلة لتسوية المنازعات، مما قد يشكل عبئًا زمنيًا وماليًا على المتقاضين. 

2. .التحكيم:يُعد التحكيم وسيلة تعاقدية لحل النزاعات، حيث يتفق الأطراف مسبقًا على اللجوء إليه، إما عبر شرط تحكيمي في العقد أو من خلال اتفاق لاحق، ويتم اختيار محكم أو هيئة تحكيمية للفصل في النزاع وإصدار قرار نهائي وملزم قانونًا. ويمتاز التحكيم بالسرعة والمرونة مقارنة بالتقاضي التقليدي، إذ يتيح للأطراف إجراءات أكثر تبسيطًا وسرية، لكنه يظل أكثر تقييدًا من الوساطة نظرًا لهيكليته الرسمية وطبيعته الإلزامية. كما أن قرارات التحكيم عادة ما تكون غير قابلة للاستئناف، مما يعزز استقرارها لكنه قد يحدّ من إمكانية مراجعة الأحكام الصادرة إلا في حالات استثنائية حددها القانون.

3. الوساطة: تقوم الوساطة على مبدأ الحوار والتفاوض بين الأطراف المتنازعة بهدف التوصل إلى تسوية ودية ترضي جميع الأطراف، وذلك بمساعدة طرف ثالث محايد يعمل على تقريب وجهات النظر دون فرض حلول ملزمة. وتتميز الوساطة بمرونتها، حيث لا تكتسب التسوية قوة الإلزام إلا إذا اتفق الأطراف على توثيقها وجعلها قابلة للتنفيذ وفقًا للإجراءات القانونية المعمول بها. كما تعد الوساطة خيارًا فعالًا نظرًا لما توفره من سرعة في إنهاء النزاعات، وسرية تضمن حماية مصالح الأطراف، فضلًا عن كونها أقل تكلفة مقارنة بالتقاضي والتحكيم، مما يجعلها وسيلة جذابة لفض النزاعات في مختلف المجالات.

ثالثًا: موقف التشريعات المقارنة من الوساطة

1. الاتحاد الأوروبي
• اعتمد الاتحاد الأوروبي التوجيه رقم 2008/52/EC لتعزيز الوساطة في المنازعات المدنية والتجارية، حيث يشجع الدول الأعضاء على توفير إطار قانوني يدعم الوساطة كخيار بديل لحل النزاعات، مع ضمان إمكانية تنفيذ اتفاقات التسوية الناتجة عنها.

2. الولايات المتحدة الأمريكية
• تُعد الوساطة جزءًا أساسيًا من النظام القضائي في الولايات المتحدة، حيث تعتمد المحاكم الأمريكية على استخدامها كإجراء أولي لحل النزاعات قبل اللجوء إلى التقاضي، بهدف تقليل العبء على النظام القضائي وتعزيز تسوية المنازعات بطرق ودية. وتُستخدم الوساطة على نطاق واسع في القضايا التجارية والمدنية، لما توفره من سرعة وكفاءة في الوصول إلى حلول مرضية للأطراف. كما تمتد تطبيقاتها إلى بعض القضايا الجنائية ذات الطابع البسيط، مثل المنازعات الأسرية وجرائم الأحداث، حيث تتيح إمكانية الوصول إلى حلول تصالحية تساهم في إعادة التأهيل الاجتماعي وتقليل النزاعات المتكررة. 

3. التشريعات العربية 
الإمارات العربية المتحدة: أصدرت الإمارات العربية المتحدة القانون الاتحادي رقم 6 لسنة 2021 بشأن الوساطة، ليكون أول تشريع مستقل ينظم هذه الآلية كوسيلة بديلة لتسوية المنازعات في الدولة. ويضع هذا القانون إطارًا قانونيًا واضحًا لتعزيز استخدام الوساطة في النزاعات المدنية والتجارية، مع منح الاتفاقات الناشئة عنها قوة تنفيذية، بما يضمن سرعة وفعالية تنفيذها دون الحاجة إلى إجراءات تقاضي مطولة، مما يعزز بيئة الأعمال والاستثمار ويواكب المعايير الدولية المعتمدة في هذا المجال.
المملكة العربية السعودية: نظام التحكيم السعودي الصادر عام 2012 يحمل المرسوم الملكي رقم م/34 بتاريخ 24/5/1433هـ (15 أبريل 2012)، ويتضمن مجموعة من الأحكام التي تنظم التحكيم كوسيلة لحل النزاعات التجارية والمدنية، مع الإشارة إلى إمكانية استخدام الوساطة كوسيلة بديلة لحل النزاعات قبل اللجوء إلى التحكيم أو أثناء سير العملية التحكيمية.
الأردن: ينظم قانون الوساطة رقم 37 لسنة 2003 إجراءات الوساطة المدنية، حيث يحدد آليات تعيين الوسطاء وإدارة جلسات الوساطة، مع منح المحاكم سلطة إحالة بعض القضايا إلى الوساطة قبل التقاضي، خاصة في النزاعات المدنية والتجارية البسيطة."
في تونس، يتم تنظيم الوساطة ضمن مجموعة من التشريعات ذات الصلة، حيث يتيح القانون رقم 42 لسنة 1993 إمكانية اللجوء إلى الحلول الودية، بما في ذلك الوساطة، إلا أنه يركز بشكل رئيسي على تنظيم التحكيم كآلية رئيسية لفض النزاعات. ومع ذلك، شهد الإطار القانوني التونسي تطورًا لاحقًا من خلال تعديلات قانونية أدخلت تنظيمًا أكثر وضوحًا للمصالحة في النزاعات التجارية والإدارية، مما عزز من دور الوساطة كأحد الخيارات البديلة لتسوية المنازعات
4. القانون النموذجي للأونسيترال بشأن الوساطة التجارية الدولية (2002):
وعلى الصعيد الدولي، يوفر القانون النموذجي للأونسيترال بشأن الوساطة التجارية الدولية لعام 2002 إطارًا قانونيًا متكاملًا للدول الراغبة في تبني تشريعات منظمة للوساطة، حيث يسهم في توحيد القواعد الإجرائية وتعزيز الاعتراف القانوني بالوساطة، إلى جانب تشجيعه على تنفيذ الاتفاقات التسوية الناتجة عنها، مما يعزز فعاليتها كوسيلة بديلة لفض المنازعات التجارية على المستوى الدولي.
5. اتفاقية سنغافورة بشأن الوساطة (2019)
تسعى اتفاقية الأمم المتحدة بشأن اتفاقات التسوية الدولية المنبثقة من الوساطة (اتفاقية سنغافورة لعام 2019) إلى تعزيز الاعتراف الدولي بفعالية الوساطة كوسيلة بديلة لتسوية المنازعات، من خلال توفير إطار قانوني يضمن تنفيذ الاتفاقات التسوية الناشئة عنها عبر الحدود. وتتيح الاتفاقية للأطراف آلية قانونية مباشرة لتنفيذ هذه الاتفاقات دون الحاجة إلى اللجوء إلى إجراءات التقاضي التقليدية أو التحكيم، مما يسهم في تعزيز سرعة وفعالية تسوية النزاعات التجارية الدولية، ويعزز مناخ الاستثمار والتجارة العالمية عبر تقليل التعقيدات القانونية المرتبطة بتنفيذ اتفاقات الوساطة .

اقرأ أيضا

رابعًا: موقف التشريع المصري من الوساطة

رغم تزايد أهمية الوساطة كوسيلة فعالة لتسوية المنازعات في العديد من النظم القانونية، إلا أن التشريع المصري لم يصدر حتى الآن قانونًا مستقلًا ينظمها بشكل شامل، مما أدى إلى الاعتماد على نصوص متفرقة داخل تشريعات أخرى، مثل قانون التحكيم المصري رقم 27 لسنة 1994 وقانون حماية المستهلك رقم 181 لسنة 2018، دون وجود إطار قانوني موحد يحدد نطاقها وإجراءاتها بشكل دقيق. وعلى المستوى العملي، تُستخدم الوساطة في المنازعات التجارية داخل الغرف التجارية والمؤسسات المصرفية كوسيلة لتسوية النزاعات بشكل ودي، كما يتم اللجوء إليها في بعض القضايا المدنية من خلال المراكز القانونية الخاصة، إلا أنها تظل تفتقر إلى الدعم القانوني الملزم، مما يحدّ من فعاليتها. وبسبب غياب قوة تنفيذية مباشرة لاتفاقات الوساطة، فإن أي تسوية يتم التوصل إليها تحتاج إلى تصديق المحاكم حتى تصبح قابلة للتنفيذ، بخلاف قرارات التحكيم التي تتمتع بحجية ملزمة بمجرد صدورها. 

وفي ظل سعي مصر إلى تعزيز بيئة الاستثمار وتقليل الضغط على المحاكم، تبرز الحاجة الملحة إلى إصدار تشريع مستقل ينظم الوساطة، على غرار التجارب التشريعية الناجحة في الإمارات والأردن، إلى جانب الاستفادة من اتفاقية سنغافورة بشأن الوساطة (2019)، التي توفر إطارًا دوليًا معترفًا به لتنفيذ اتفاقات الوساطة عبر الحدود، مما يسهم في تعزيز الثقة في هذه الآلية ويدعم دورها في تحقيق العدالة الناجزة."

خامسًا: رؤية تشريعية مقترحة لتنظيم الوساطة في مصر

في ظل التطور المستمر في التشريعات الدولية المتعلقة بالوساطة، أصبح من الضروري أن يتبنى المشرع المصري إطارًا قانونيًا واضحًا لتنظيم الوساطة وضمان فعاليتها محليًا ودوليًا. 

لتحقيق تنظيم فعّال وشامل للوساطة في مصر، تتطلب الرؤية التشريعية المقترحة إصدار قانون مستقل يضع تعريفًا دقيقًا للوساطة، ويحدد أشكالها المختلفة، ويُبين نطاق تطبيقها في المنازعات التجارية والمدنية، بما يضمن وضوح القواعد الحاكمة لها. كما يتعين إنشاء هيئة رسمية تتولى اعتماد الوسطاء وتنظيمهم، مع وضع معايير مهنية وأخلاقية واضحة تحكم عملهم، إلى جانب آليات تأديبية لضمان الامتثال للمعايير الدولية. ولتعزيز الثقة في الوساطة، يجب منح اتفاقات الوساطة قوة تنفيذية تعادل حجية الأحكام القضائية والتحكيمية، مع ضرورة انضمام مصر إلى اتفاقية سنغافورة بشأن الوساطة (2019) لضمان الاعتراف الدولي بهذه الاتفاقات وتنفيذها عبر الحدود. 

كما يعد تشجيع الوساطة الإلكترونية عنصرًا محوريًا في تطوير هذا المجال، مما يستلزم تقنين استخدام المنصات الرقمية لعقد جلسات الوساطة، مع توفير حماية قانونية للمراسلات الإلكترونية المرتبطة بها. 

وأخيرًا، ينبغي تعزيز ثقافة الوساطة من خلال إدراجها في المناهج الدراسية القانونية، وتقديم برامج تدريبية متخصصة للوسطاء والمحامين، لضمان كفاءة الممارسات الوسيطة وترسيخ الوساطة كآلية أساسية لحل النزاعات بفعالية ومرونة.

ورغم أن التشريعات المقارنة قد تبنّت الوساطة كنهجٍ فاعلٍ في تسوية النزاعات، إلى جانب القضاء والتحكيم، فإن التشريع المصري لا يزال بحاجةٍ إلى إطارٍ قانوني شاملٍ يعزز استخدامها، ويضع تنظيمًا واضحًا يكفل فاعليتها، بما يتماشى مع المعايير الدولية، ويضمن تكاملها مع الوسائل الأخرى لحل النزاعات. فإرساء دعائم الوساطة لا يعني الانتقاص من دور القضاء أو التحكيم، وإنما يساهم في إثراء منظومة العدالة، ويدعم تعددية آلياتها، ليظل القضاء حصن الحقوق، والتحكيم ميدان الخبرة المتخصصة، والوساطة واحة التفاهم والوفاق، حيث تتحقق العدالة في أبهى صورها، قوامها السرعة والإنصاف، وغايتها الوصول إلى حلول عادلة، تعزز الاستقرار القانوني والاقتصادي، وتكرس ثقافة التسوية الرضائية بلا تفريطٍ في الحقوق أو إجحاف.

تابع أحدث الأخبار عبر google news
إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق