ما جدوى إعداد أنطولوجيا لشعراء غزّة، فيما القطاعُ مُحاصَرٌ وأهلُه يُقصَفون صباح مساء؟ ما معنى أن نطلُبَ الشعر في زمن الحرب؟
كان القصفُ على أشُدِّه. ضاقَتْ بي مُتابَعةُ نشرات الأخبار التي يُقدِّم مُذيعوها التفجيرات المتلاحقة بملامح جامدة، ويُحصون خلالها الشهداء من الأطفال والنساء والمدنِيّين بنبرة محايدة. شرعتُ في التسلَّل باتجاه إخوتي هناك عبر خيوط الشبكة الزرقاء.
طرقتُ باب حسام معروف فبادرني بهدوءٍ قاسٍ:
“أنتم خارج المشهد تمامًا
والعاصفة لن تهدأ هذا النّهار
لكن، مَن يقفُ خلفَ المِنظار
لا يُنقِذُ الغريق
لم نعد نريد منكم شيئا
نريدُ فقط أن نموت بأمان.”
كان الإحساس بـ”الخزي” ينهشُني. (مَن يجرؤُ يقترحُ كلمةً أكثر تهذيبًا؟) ومع ذلك طلبتُ منه قصيدة تُكثّف هذا الموقف بالذّات: الموقف من الحرب، هذه الهوجاء الغاشمة، منّا نحن الجبناءَ المتخاذلين، ومِن العالم الذي كان حرًّا قبل أن تُسلَب منه الإرادة ويفقدَ الإحساس بكرامة الإنسان. هذا بالضبط ما نحتاجُه يا حسام: قصيدتُك / الشَّهادةُ صادقةً جارحةً معجونةً بالكبرياء.
كنّا نتواصل في يوليو 2024، وكان حسام يكتب لي من دير البلح التي نزح إليها من خان يونس، التي نزح إليها من رفح، التي نزح إليها من غزّة. بعد شهرٍ فقط مِن بعْثِ مساهمته، والقصفُ يتواصلُ بلا هوادةٍ في آب اللّهَّاب، كتب يسأل:
صديقي، هل صدرت الأنطولوجيا؟
لا يا حسام، ليس بعد. أجبتُه بتعاطف.
كان يريد أن تصدُرَ الأنطولوجيا قبل أنْ “لا قدّرَ الله”.
تذكّرتُ نور الدين حجّاج.
اغتيل نور الدين يوم 3 ديسمبر 2023 إثر قصفٍ نفّذه العدوان الجوّي الإسرائيلي على منزله الكائن في حيّ الشّجاعية – يا لَبلاغة التّسْمِية – شرقَ مدينة غزّة. في رسالته الأخيرة إلى العالم، التي خطّها يوم 28 أكتوبر 2023، استودعَنا أحلامَهُ ثمّ غاب: “أحد أحلامي أن تجوب كتاباتي العالم، أن يصير لقلمي أجنحة لا توقفها جوازاتُ سفرٍ غير مختومة ولا فِيَزٌ مرفوضة.”
لكنه رحل قبل أن تصدُر الأنطولوجيا. قتلوه وبقيت قصيدتُه حيّةً فينا، شاهدةً على دناءةِ القاتل وبراءةِ القتيل.
تصوَّروا…
لقد كان يُعزّينا ويُهدّئُ من روْعِنا نحنُ الشُّهود على استشهاده:
“لا تكترثوا للمشهد الأخير
إن كان حرقًا أو غرَقًا أو قفزًا من عُلوٍّ أو طعنًا
في غزّة نحن نموت عدّة مرات قبل هذا.”
كانوا يموتون مرارًا قبل الموت. يتنقّل شعراء غزّة مع أهلهم من مكان إلى آخر داخل القطاع المُحاصَر، الأوامرُ المتكرِّرةُ بإخلاء المناطق التي يسكنونها تُخرّب سكينتهم، والقصفُ الأعمى يُطاردهم. فيما كنتُ أطالِبُهم بمكان إقامتهم: هنا والآن. لأنّ نُبذاتِ تعريف الشعراء، كما ننوي نشرها في الأنطولوجيا، يجب أن تتضمّن هذا التفصيل.
“حسنًا، أنا اليوم في بلدة الزوايدة بالمحافظة الوسطى”، يقول أنيس غنيمة، “وغدًا، لستُ أدري”، يضيف.
“أنا نازحٌ من رفح” يقول حامد عاشور، “مقيمٌ حاليا في مجمع ناصر الطّبّي”.
“ضحى لا ترُدّ؟ خلاص سأنوب عنها وأرسل لك بعض نصوصها اليوم أو غدًا” تكتب لي مُنى المصدّر بسخاء. لكنّ ضحى الكحلوت سرعان ما استجابت: “مرحبا ياسين، أرسلتُ الملف على الإيميل قبل قليل”.
“رح ننزح كمان يومين لمنطقة جديدة… المنطقة هاي هُدِّدَت للتّو بالقصف مع الأسف”، كتبت نعمة حسن قبل أن تغيب لأيّام.
كثيرًا ما كان شعراء غزّة يغيبون، لأيّام وأسابيع. فأقلق عليهم قبل أن أصْبِح على إيميلٍ من هذا الشاعر أو تلك الشاعرة، بنفس الصّيغة تقريبًا: “أعتذر عن التأخير بسبب تعذُّرِ الوصول إلى الإنترنت في الفترة الماضية”.
حدث أن اتّصلْتُ بشاعر صديق (هاشم شلولة) أستعْجِلُه. تواصَلْنا يوم 12 يوليو 2024، وكان حينها في خان يونس. في اليوم الموالي، وأنا أتابع نشرة الأخبار ساعة الظهيرة فوجئتُ بتقريرٍ عن مجزرةٍ مُريعة ارتكبها سلاح الجو الإسرائيلي في مواصي خان يونس وتسبّبت في مقتل تسعين فلسطينيًّا وجرح أزيد من ثلاثمئة آخرين. أعدْتُ الاتّصال بهاشم مرارًا دون جدوى. وفي آخر المساء أطلّ من شُرفةِ غيابه: “لقد نجوتُ يا صديقي. استشهد بعض أقاربي وجُرِح آخرون. نالني الغبار وطالتني الشظايا، لكنني نجوت. رائحة الدم في كل ناحية. لقد كانت قيامة حقيقية. لا أعتقد أنني سأعيش أهوالًا أكثر من أهوال اليوم”.
كنتُ أجاوِرُ الأهوال ولو عبْرَ مسافةٍ. أجاورُها وكأنّني في قلبها. كان الحَرُّ في مراكش لاهبًا، وكان الأهل والأصدقاء مُوزَّعين على الشواطئ. أمّا أنا، فقد قرّرت أن أحبس نفسي في قيظ مراكش تضامُنًا. تلبّسَتْني حالةُ اكتئاب. لكنَّ الشعر كان البلسمَ. كانت قصائدُ الشعراء الحارقةُ تُسرِّي عنّي وتُواسيني. تُعيد لي الثقة في الكلمة، في دورِها، وفي قدرتِها على المقاومة.
يكتب رفعت العرعير:
“إذا كان لا بُدّ أن أموت
فليأتِ موتي بالأمل.”
ثم إنّ ثقتنا في غزّة كبيرةٌ. فغزّة أبدًا لا تموت. إنّها عنقاءُ الرّماد. عنقاءُ المدن.
يحكي العهد القديم عن غزو الغرباء لغزّة وإبادتهم لأهلها امتثالًا لأوامر “ربّ الجنود”، لكنّ غزّة سرعان ما نهضت من رمادها مثل طائر الفينيق. وجاء في الأسفار القديمة ذِكْرُ قصة شمشون الذي حارب الفلسطينيّين وأحرق أرضهم قبل أن تهزمه دليلة وتستدرجه للأسر في غزّة. وتُدوّنُ كتبُ التاريخِ المتأخّرةُ معارك غزّة الثلاث التي تعرّض فيها جيش الغُزاة البريطاني في الحرب العالمية الأولى للتقتيل ليُخلِّف ثلاث مقابر كبرى في غزّة والرّملة ودير البلح. واليوم، ها هي قصائد هذه الأنطولوجيا تسجّل بدورها يوميات عدوانٍ شنيعٍ على غزّة. قصائد توثّق لزمن الإبادة دون أن تنسى أنّ الحياة هي الأصل. فأهالي غزّة موعودون بالحياة، وهم على العهد معها. وها نحن اليوم، بعد سريان وقفِ إطلاق النار، لا نملك إلّا أن نردّد مع ناصر رباح برويّةٍ وبلا ضغينة:
“العصافيرُ شاهدَتْ كلّ شيء: القتل والقصف والخراب. وحين انتهت الحرب، واصَلَت الزّقزقة.”
لكن، هل فعلا انتهت الحرب؟ هل صار بإمكان أهالي غزّة اليوم أن يتذكّروا شكلَ السّماءِ بلا طائرات؟ ومنظرَ الأرضِ بلا جرّافات ولا جنازير؟ ربّما يا حامد عاشور. ربّما. أمّا وقد عادت العصافير لتُواصل الزقزقة، فنحن بدورنا نتوقّعُ منكم المزيد. ولتكن هذه الأنطولوجيا مجرّد مقدِّماتٍ لزقزقةٍ عارمة، وإرهاصاتٍ أولى تَعِدُ أصدقاء الشعر بديوان غزّة القادم. ديوانٌ يفضح قُبْحَ العالم، ويُعيد المجد للإنسان.
0 تعليق