لطالما كان الذهب الملاذ الآمن الأول في أوقات الأزمات الاقتصادية والسياسية، فهو ليس مجرد معدن نفيس يستخدم في المجوهرات، بل يُعد مخزونًا للقيمة وأحد أهم أدوات التحوط ضد التضخم وعدم اليقين المالي.
وعلى مدار التاريخ، ارتبط الذهب بقوة الاقتصاد العالمي، فكلما اهتزت الأسواق أو تفاقمت التوترات الدولية، لجأ المستثمرون إليه كخيار آمن للحفاظ على ثرواتهم.
واليوم مع عالم يموج بالتغيرات الجذرية، يعود الذهب إلى واجهة المشهد الاقتصادي، محققًا مستويات سعرية غير مسبوقة، ما يطرح تساؤلات حول مستقبله في ظل التحولات الاقتصادية المتسارعة.
ارتفاع كبير في الأسعار
ويشهد سوق الذهب العالمي ارتفاعات قياسية في الأسعار، حيث تجاوز سعر الأوقية لأول مرة حاجز 2900 دولار، مدفوعًا بعدة عوامل اقتصادية وجيوسياسية معقدة، حيث يأتي هذا الصعود وسط استمرار التوترات بين الولايات المتحدة والصين، وعودة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب إلى الحكم في يناير 2025، ما أثار مخاوف من تجدد السياسات التجارية الحمائية.
وعلى الرغم من ارتفاع الدولار الأمريكي – الذي يفترض أنه يؤدي إلى انخفاض أسعار الذهب وفقًا للقاعدة الاقتصادية التقليدية – إلا أن المعدن الأصفر واصل صعوده.
ويرجع ذلك إلى تزايد الطلب من البنوك المركزية العالمية، خصوصًا في الصين، التي تسعى لتعزيز احتياطاتها من الذهب على حساب الدولار، وبالإضافة إلى ذلك، تسببت الأوضاع غير المستقرة في الشرق الأوسط، بما في ذلك التطورات الأخيرة في ملف غزة، في إبقاء الطلب على الذهب مرتفعًا، ما أدى إلى استمراره عند مستويات غير مسبوقة.
ماذا يحدث في سوق الذهب العالمي؟
وفي هذا السياق، قال المهندس لطفي المنيب، نائب رئيس شعبة الذهب والمجوهرات بالاتحاد العام للغرف التجارية، بأن الأسواق العالمية تمر بمرحلة استثنائية، حيث ارتفع الذهب إلى مستويات قياسية على الرغم من صعود الدولار، وهو أمر غير معتاد في العرف الاقتصادي.
وأوضح المنيب في تصريحات لـ "بانكير"، أن إدارة ترامب أعادت تشكيل المشهد الاقتصادي العالمي عبر سياسات هجومية قائمة على فرض رسوم جمركية مشددة، مما أدى إلى توتر العلاقات مع الصين، أحد أكبر مستهلكي الذهب في العالم.
وأشار إلى أن هذه التوترات دفعت البنوك المركزية إلى اتخاذ تدابير استثنائية، حيث زادت الصين وروسيا والهند من احتياطاتها من الذهب كجزء من استراتيجية تقليل الاعتماد على الدولار الأمريكي.
ولفت إلى أن هذا الاتجاه ينعكس بوضوح على السوق، إذ بات الذهب ليس مجرد ملاذ آمن في أوقات الأزمات، بل أصبح أداة استراتيجية تستخدمها الدول الكبرى لتعزيز نفوذها الاقتصادي.
وأضاف المنيب أن الأسواق العالمية شهدت خلال الشهور الماضية تدفقًا غير مسبوق لرؤوس الأموال نحو الذهب، ليس فقط من قبل المستثمرين الأفراد، بل أيضًا من قبل صناديق الاستثمار الكبرى التي باتت تعتمد عليه كأحد أهم الأصول القادرة على الصمود في وجه التقلبات الاقتصادية الحادة.

وضع السوق المحلي
أما عن السوق المحلي في مصر، فقد أكد المنيب أنه أصبح منفتحًا للغاية ويرتبط ارتباط وثيق مع السعر العالمي.
وأشار إلى أن سوق الذهب المصري يعاني من ركود كبير، لعدة أسباب من بينها ضعف القوة الشرائية للمستهلكين بعد طرح شهادات الادخار ذات العائد المرتفع 30% التي جذبت اهتمام المستثمرين وأبعدتهم عن شراء الذهب، بالإضافة لتصريف الذهب من جانب العديد من المواطنين الذين عمدوا إلى شرائه عندما كان سعره 2200 جنيهًا.
وشدد المنيب على أن الاستثمار في الذهب خلال هذه الفترة يتطلب حذرًا شديدًا، مؤكدًا أن السوق تمر بمرحلة ضبابية كبيرة، حيث لا يمكن توقع السعر بدقة.
وقال: "على الرغم من أن الذهب يحقق ارتفاعات قياسية، فإن طبيعة الأسواق العالمية قد تؤدي إلى تصحيحات سعرية مفاجئة، لذا فإن المضاربة في الذهب خلال هذه الفترة قد تكون محفوفة بالمخاطر"، لافتًا إلى أن النصيحة الأفضل للمستثمرين حاليًا هي عدم التسرع في اتخاذ قرارات البيع أو الشراء بناءً على التحركات اليومية للأسعار، والاعتماد على رؤية طويلة الأجل.
وحول مدى إمكانية استمرار ارتفاع أسعار الذهب عالميًا، أكد المنيب أن الأمر يعتمد بشكل رئيسي على التطورات الجيوسياسية والاقتصادية خلال النصف الثاني من عام 2024، مشيرًا إلى أن أي انفراجة في العلاقات بين القوى الكبرى أو استقرار في الأسواق المالية قد يؤدي إلى تراجع الطلب على الذهب، وبالتالي تصحيح محتمل في الأسعار.
توقعات المؤسسات الدولية لسعر الذهب في 2025
ومع استمرار الأوضاع الاقتصادية غير المستقرة، رفعت كبرى المؤسسات المالية تقديراتها لأسعار الذهب خلال العام المقبل.
- بنك غولدمان ساكس يتوقع وصول الذهب إلى 3100 دولار للأوقية بنهاية 2025، مستندًا إلى الطلب المتزايد من البنوك المركزية والمستثمرين.
- جي بي مورغان رجح إمكانية وصول الذهب إلى 3500 دولار للأوقية في حال استمرت الاضطرابات الجيوسياسية والاقتصادية الحالية، خاصة مع توجه الدول الناشئة إلى زيادة حيازاتها من الذهب.
- سيتي للأبحاث أشار إلى أن الأسواق الناشئة، وعلى رأسها الصين والهند، ستواصل تعزيز احتياطاتها من الذهب كجزء من استراتيجيات إزالة الدولرة، ما سيدفع الأسعار إلى مزيد من الارتفاع.
- بنك أوف أمريكا حذر من أن استمرار ارتفاع أسعار الفائدة قد يبطئ صعود الذهب، لكنه لا يستبعد أن يصل إلى 3300 دولار للأوقية بحلول نهاية 2025، إذا استمرت البنوك المركزية في شراء كميات كبيرة منه.
وفي ضوء هذه التوقعات، يظل مستقبل الذهب مرتبطًا بتطورات المشهد العالمي، حيث أن استمرار عدم اليقين الاقتصادي قد يدفع الأسعار إلى مستويات قياسية جديدة، بينما قد يؤدي استقرار الأوضاع إلى تصحيح محتمل في الأسعار، وفي كلتا الحالتين، يبقى الذهب أحد الأصول الأكثر أهمية في المشهد المالي العالمي.
0 تعليق