في ظل التحولات الكبرى التي يشهدها ميزان القوى العالمي، تسعى الإدارة الأمريكية الجديدة إلى إعادة ترتيب أولوياتها الاستراتيجية، حيث يبدو أن العدو الحقيقي الذي يؤرق واشنطن لم يعد روسيا، بل الصين، التي تخوض حربًا اقتصادية شرسة ضد الهيمنة الأمريكية. ومن هذا المنطلق، تعمل الإدارة الأمريكية على إنهاء الحرب الروسية الأوكرانية، ليس فقط لتخفيف الأعباء الاقتصادية والعسكرية التي أرهقت الغرب، ولكن أيضًا بهدف تحييد روسيا أو حتى استقطابها في مواجهة الصعود الصيني المتسارع.
على مدار السنوات الماضية، خاضت الولايات المتحدة معركة مفتوحة ضد روسيا، بدأت بالعقوبات الاقتصادية المشددة، مرورًا بالدعم العسكري اللامحدود لأوكرانيا، وصولًا إلى محاولات عزل موسكو دبلوماسيًا. غير أن هذه السياسة لم تحقق أهدافها بالكامل؛ فروسيا لم تنهار، بل عززت علاقاتها مع الصين وإيران، واستطاعت التكيف مع العقوبات الغربية عبر تنويع تحالفاتها الاقتصادية والعسكرية.
ومع إدراك واشنطن أن معركتها ضد روسيا أصبحت مكلفة وطويلة الأمد دون تحقيق نصر حاسم، بدأ التفكير في سيناريو جديد يقوم على إنهاء الحرب في أوكرانيا عبر مفاوضات تحقق الحد الأدنى من المكاسب لأوكرانيا، ولكن الأهم من ذلك، تضمن تحييد موسكو عن التحالف الوثيق مع بكين.
على الرغم من أن روسيا تمثل تحديًا عسكريًا للولايات المتحدة وحلفائها، فإن الصين تشكل تهديدًا وجوديًا للنظام الاقتصادي الذي تقوده واشنطن. فقد نجحت بكين خلال العقود الأخيرة في بناء اقتصاد ضخم ينافس الاقتصاد الأمريكي، كما عززت نفوذها التكنولوجي، ووسعت مشاريعها ضمن مبادرة “الحزام والطريق”، ما جعلها قوة لا يمكن احتواؤها بسهولة.
الولايات المتحدة تدرك أن خوض حرب على جبهتين – مع روسيا ومع الصين – سيكون خطأ استراتيجيًا قد يفقدها موقعها كقوة عظمى. ولذلك، تعمل الإدارة الأمريكية على تقليل الصدام مع موسكو، وتركز مواردها على إضعاف الصين، سواء عبر فرض قيود على صادرات التكنولوجيا إليها، أو عبر تشكيل تحالفات اقتصادية وعسكرية مع دول منطقة المحيط الهادئ، مثل الهند واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا.
إدراكًا منها بأن أي حرب باردة جديدة مع الصين ستكون قائمة على النفوذ الاقتصادي بالدرجة الأولى، تسعى الولايات المتحدة إلى تقوية اقتصادها داخليًا من خلال إعادة التصنيع المحلي، حيث تعمل على إعادة الصناعات الاستراتيجية إلى أراضيها، خصوصًا في مجالات التكنولوجيا المتقدمة وأشباه الموصلات. كما تسعى إلى تعزيز الاستثمار في الطاقة، مستفيدة من مكانتها كأكبر منتج للنفط والغاز، وزيادة صادراتها إلى أوروبا وآسيا.
إلى جانب ذلك، تستثمر واشنطن بشكل مكثف في الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا المتقدمة لضمان تفوقها على الصين في المجالات الحيوية، كما تتبع سياسات نقدية ومالية للحفاظ على قوة الدولار كعملة الاحتياط العالمية، مما يضمن استمرار نفوذها في الأسواق الدولية.
محاولة واشنطن استقطاب موسكو ليست بالأمر السهل، فروسيا تدرك أن الولايات المتحدة لن تصبح حليفًا موثوقًا بين ليلة وضحاها، كما أن علاقتها مع الصين أصبحت أعمق، حيث يحقق التعاون الروسي-الصيني مكاسب اقتصادية وجيوسياسية لكلا البلدين. ومع ذلك، فإن إطالة أمد الحرب في أوكرانيا، واستمرار الضغوط الاقتصادية، قد يدفع موسكو إلى مراجعة حساباتها، لا سيما إذا قدمت واشنطن ضمانات أمنية واقتصادية مغرية.
في النهاية، العالم يشهد مرحلة إعادة تشكيل للقوى العظمى، حيث تحاول الولايات المتحدة إعادة تموضعها لمواجهة الصعود الصيني، مستخدمة كل الأدوات الممكنة، سواء عبر تقوية اقتصادها، أو عبر إعادة ترتيب تحالفاتها الدولية، وهو ما يجعل المرحلة القادمة مليئة بالمفاجآت والتغيرات في المشهد السياسي العالمي.
0 تعليق