يقول الرسول الأكرم عليه الصلاة والسلام:
“الآدمي بنيان الرب، ملعون من هدم بنيان الرب”
إن بحثنا في هذه العقوبة سيكون من زوايا ثلاث: موقعها في إطار المقاصد الشرعية – ثم موقعها في إطار ما دلت عليه النصوص القرآنية – وأخيرا في إطار ما دلت عليه العقول
بالنسبة للقسم الأول يرى العلماء أن قتل النفس كبيرة من الكبائر لا كبيرة بعدها إلا كبيرة الكفر برب العالمين وأن عقوبتها هي كذلك عقوبة لا عقوبة بعدها في حياتنا الدنيوية إذ أي عقاب يمكن أن يقع دنيويا بعد الإعدام ؟
أو بتعبير آخر يرى العلماء أن المحظورات الشرعية لما كانت على ضربين: كبائر وصغائر، كانت العقوبات أيضا على ضربين: حد وتعزير، ودون شك أن عقوبة الإعدام داخلة في إطار الحدود التي هي عبارة عن جزاءات تم تحديدها من قبل الشرع بكامل الدقة والصرامة، كما تم تحديد موضوعاتها بنفس الدقة والصرامة
في علاقتها بالمقاصد الشرعية التي لا تستقيم الحياة بدونها، يذكر العلامة ابن عرفة الشهير بتدقيقاته العلمية “أن الأصولين نقلوا إجماع الملل على وجوب حفظ الأديان، والنفوس، والعقول، والأعراض، والأموال، والأنساب. فإن في القصاص حفظ للدماء، وفي القطع للسرقة حفظ للأموال “الخ
كذلك يذكر العالم الكبير ابن رشد في علاقتها بالعدل الذي من أجله جاء كل الأنبياء والرسل: وينبغي أن تعلم أن السنن المشروعة العملية المقصود منها الفضائل النفسانية، وأن هذه الفضائل منها ما يرجع إلى تعظيم من يجب تعظيمه، وشكر من يجب شكره، وفي هذا الجنس تدخل العبادات…ومنها ما يرجع إلى طلب العدل، والكف عن الجور، وفي هذا الجنس يدخل القصاص، والحروب والعقوبات، لأن هذه كلها إنما يطلب بها العدل”
وكذلك يذكر المحقق الكبير الإمام الراغب الأصفهاني في الفرق بين الأحكام التكليفية التي تدخل ضمنها عقوبة الإعدام، وبين الأحكام الأخلاقية التي يدخل ضمنها، المناداة بتجاوز الحكم بالإعدام رأفة أو تقليدا على الأصح، يقول : واعلم أن العبادة ( والمراد بها هنا ما هو واجب وما هو محرم) أعم من المكرمة، فإن كل مكرمة عبادة ،وليس كل عبادة مكرمة، ومن الفرق بينهما أن العبادات فرائض معلومة، وحدود مرسومة، وتاركها يصير ظالما معتديا، والمكارم بخلافها، ولن يستكمل الإنسان مكارم الشرع ما لم يقم بوظائف العبادات.فتحري العبادات من باب العدل، وتحري المكارم من باب الفضل والنفل، ولا يقبل تنفل ممن أهمل الفرض، ولا تفضل ممن ترك العدل، بل لا يصح تعاطي الفضل إلا بعد العدل، فإن العدل فعل ما يجب، والتفضل الزيادة على ما يجب، وقد أشار الله تعالى بالعدل إلى الأحكام، وبالإحسان إلى مكارم الأخلاق بقوله: ” إن الله يأمر بالعدل والإحسان” (النحل 90) وقوله: “يأيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون” (الحج 77) ففعل الخير هو الزيادة على العبادة (أي الفروض) وبه يستحق الإنسان خلافة الله في الأرض.
ومعنى هذا أن الدولة لا يحل لها أن تشرع الحكم بإلغاء عقوبة الإعدام، لأنها أولا داخلة في باب العدل الذي لا يمكن تجاوزه، وثانيا إن الإلغاء لها ليس من اختصاص الدولة، بل هو من اختصاص أولياء الضحية فهم وحدهم القادرون على استبدال القصاص بالعفو أو بالدية، كما سنلاحظ لاحقا.
هذا بالنسبة للقسم الأول وأما بالنسبة للقسم الثاني وهو موقعها في إطار ما دلت عليه النصوص القرآنية فيبدو أن تشخيص ذلك ممكن بالتدبر في هذه الآيات الثلاث من كتاب الله العليم الحكيم، وهي قوله تعالى:
“واتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، قال: لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين، لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك، إني أخاف الله رب العالمين، إني أريد أن تبوء بإثمي وإثمك فتكون من أصحاب النار، وذلك جزاء الظالمين، فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين” (المائدة 17-20).
ثم قوله سبحانه: “ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا” (الإسراء 33).
ثم أخيرا قوله سبحانه: “يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى، فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان، ذلك تخفيف من ربكم ورحمة، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم، ولكم في القصاص حياة يأولى الألباب لعلكم تتقون” (البقرة 178-179).
واضح من هذه الآيات أنها وإن اتفقت جميعها في تحريم القتل، فإنها من جهة الجزاء، فيها نوع من التدرج إذ الأولى اكتفت بالحديث عن الجزاء في بعده الأخروي، والثانية وإن تعرضت للجزاء في بعده الدنيوي فقد أتت فيه بنوع من الإجمال. أما الأخيرة فهي التي فصلت القول في الجزاء الدنيوي تفصيلا، ومن ثم سأقتصر عليها في هذا المقام، وأبدأ بتقسيمها إلى ثلاثة أجزاء
جزء موضوعه القصاص في النفوس وهو قوله سبحانه: “يأيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر، والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى”، وجزء آخر موضوعه العفو والفضل وهو قوله تعالى: “فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان”، أما الجزء الثالث فموضوعه التعقيب الذي ورد في الآية على كل من القصاص والعفو في قوله: “ذلك تخفيف من ربكم ورحمة فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم، ولكم في القصاص حياة يأولي الألباب لعلكم تتقون”.
بالنسبة للجزء الأول الخاص بالقصاص يلاحظ أن الآية استعملت لفظ القصاص الذي هو مصدر قياسي لفعل قاصصه ومعناه لغة المساواة وتتبع الأثر، وشرعا معناه كذلك: مساواة القاتل للمقتول: النفس بالنفس، والجرح بالجرح، إذ “الغرض من الآية شرعية القصاص بالعدل والمساواة، وإبطال ذلك الامتياز الذي للأقوياء على الضعفاء”.
يتجلى هذا العدل في مساواة العقوبة للجريمة، وهي من قواعد الإسلام العامة: النفس بالنفس، والجرح بالجرح “ولقد قال بعض علماء الاجتماع والقانون: إن العقوبة إذا اشتقت من الجريمة كانت رادعة، إذ تجعل المجرم يحس بأنه نازل به مثل إجرامه”
كذلك يتجلى العدل بالمساواة في النفوس إذ قوله تعالى : “الحر بالحر والعبد بالعبد، والأنثى بالأنثى” إنما سيق للرد على الجاهليين الذين كانوا لا يسوون في الدماء، حيث كان الحر إذا قتل حرا من قبيلة، وكان الأول من دهماء الناس وكان الثاني من أشرافهم لا يقتل به بل يبحث عمن يكافئه، وربما لا يكافئه واحد، وذلك من العصبية الجاهلية، ومن نظام التفاوت الذي لا يزال يسري بين الناس مقيتا وإن كان مألوفا فجاء النص لتصحيح الأمر في هذا المقام بالقصاص العادل. وهذا معناه أن الآية وإن لم تتعرض لحال المساواة عند “اختلاف الوصف أو الجنس بأن قتل الحر العبد، والعبد الحر، والمرأة الرجل، والرجل المرأة، فإن مثل هذه المساواة قد ثبتت بقوله تعالى : “والأنثى بالأنثى”، إذ هي تقتضي قصاص الحرة بالرقيقة ، فكان الأمر كذلك بالنسبة للذكور أيضا ، بمعنى أن الحر يقتل بالعبد والعبد بالحر “وثبتت أيضا بقوله تعالى: وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص” (المائدة45) كما ثبتت أيضا بذكر قصة ولدي آدم حين قتل قابيل أخاه هابيل في أقبح صورة : “من أ جل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا” (المائدة 32)، وبذلك كله يكون القصاص قد تقرر في الشريعة الإسلامية على أساس التساوي في العقوبة والتساوي في النفوس،بمعنى أن الرجل يقتل بالمرأة، والمرأة بالرجل، والعبد بالحر، والحر بالعبد
الترغيب في العفو
هذا بالنسبة للجزء الأول من الآية وأما بالنسبة للجزء الثاني منها وهو الخاص بالعفو والإحسان الذي جاء فيه قوله تعالى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ِفاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان) فيلاحظ كذلك من خلال هذه الآية أن الحق سبحانه وتعالى يفتح بابا من الإحسان في هذا االقصاص، والباب وإن كان يبدو ضيقا لما يحمله هؤلاء وأولئك من ضغائن وأحقاد وحب في الانتقام، فإن الحق سبحانه حينما تناوله بهذه الطريقة المعبر عنها بقوله سبحانه: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ ، يكون قد جعله واسعا، إذ هو من جهة يرغب صراحة في العفو، ومن جهة نجده ينفذ إلى ما وراء هذه الضغائن أو الأثقال التي يحملها هؤلاء وأولئك، حيث يقوم بلفته أنظار أولياء المقتول إلى ما يربطهم بالقاتل من أخوة، قد تكون أخوة الإسلام، وقد تكون أخوة الإنسانية، قال أبو حيان الأندلسي شارحا ما يربط أولياء المقتول بالقاتل: الظاهر أن “من” هو القاتل، والضمير في “له” و”من أخيه” عائد عليه”وأولياء المقتول هم المعبر عنهم بقوله تعالى: “من أخيه شيء”، والأخ هو المقتول، أو ولي الضحية، وسماه أخا للقاتل اعتبارا بأخوة الإسلام أو استعطافا له عليه…”.
ثم من جهة أخرى يلاحظ أن عملية الانتقال من القصاص إلى العفو، أو من العدل إلى الإحسان، وإن كانت في غاية الصعوبة، كما قلنا، فإن ما يجعلها أيضا قابلة للتحقق هو أن الدخول من باب الإحسان لا يتم إلا بإرادة المجني عليهم، وهم أولياء دم المقتول، ذلك أن منزلتهم في هذا الدخول دونها كل المنازل المشاركة، (أعني القاتل، والدولة) إذ هم “عصبة المقتول الذين يعتزون بوجوده، ويهانون بفقده، ويحرمون من عونه ورفده… وهم الذين إذا لم يقتص لهم الحاكم أثاروا التشاحن والخصام بينهم وبين القاتل وقومه، فبدون صفاء نفوس هؤلاء لن يكون هناك انتقال بالعملية من مستوى العدل والإنصاف إلى مستوى التراحم والفضل، ثم إلى جانب ذلك، هم أولئك الذين جعل لهم الحق سبحانه سلطانا في استيفاء القصاص في قوله تعالى: ” ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا” (الإسراء 33)أي منصورا من عند الله.
وتظهر قيمتهم أيضا في أن الحكومة ليس لها أن تمنعهم من العفو إذا رضوا به، ولا أن تستقل بالعفو إذا طلبوا القصاص” كما تظهر أيضا في أنه بدون عفوهم ولو في حده الأدنى لا يمكن لعملية الانتقال أن تتم، بمعنى “أن العفو وإن لم يكن متفقا عليه من جميع أولياء الضحية كالآباء والأبناء والإخوة”، فإنه ما إن يعفو بعضهم، حتى يرجح جانبه على من لم يعفوا، كما يدل عليه تنكير “شيء” في قوله: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فقد ذهب جمهور المفسرين إلى أن “شيء” هنا نائب عن المصدر، أي عفي له شيء من العفو، بأن ناله بعضه ممن لهم المطالبة به”.
ومعنى كل هذا أن القاتل لا تأثير له في هذه العملية، عملية الانتقال بالقصاص من العدل إلى العفو وكذلك هي الدولة، إنما التأثير لأولياء المقتول إذ ما إن يعفو ولي الدم عن القصاص حتى تلزم الدية القاتل، ولا خيار له. قالت طائفة من أهل العلم: “ولي المقتول بالخيار إن شاء اقتص، وإن شاء أخذ الدية، وإن لم يرض القاتل”. وأما القاتل فتلزمه الدية ولو بغير رضاه، لأن فرضا عليه إحياء نفسه، وقد قال تعالى: وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ (النساء 29)..
ولا يكتفي الحق سبحانه وتعالى بهذا، بل يعمد إلى تقديم هذه الوصية التي يجب أن تتم تحت ظلالها عملية تنفيذ العفو، وأداء الدية. قال الإمام الزمخشري في قوله تعالى: فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ : “وهذه توصية للمعفو عنه، والعافي جميعا، يعني فليتبع الوليُّ القاتلَ، بالمعروف، بأن لا يعنف به، ولا يطالبه إلا مطالبة جميلة، وليؤد إليه القاتلُ بدلَ الدم أداء بإحسان، بأن لا يمطله ولا يبخسه”..
هذا ويجب التنبيه هنا إلى أن المستفيدين من هذا الإحسان إنما هم أولئك الذين زلت بهم النفوس فقتلوا، أما أولئك المطبوعون على القتل والإجرام فالآية تقول في شأنهم: فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ ، ولا مفهوم لقوله: “بعد ذلك”، فبعد، وقبل، سواء في استحقاق العذاب العظيم الذي هو القصاص دنيويا وجهنم أخرويا، إضافة إلى ذلك غضب الله ولعنته…
في الغرض من القصاص والعفو
وأخيرا يتوج الحق سبحانه فلسفة هذا المركب (العدل الإحسان) ببيان الغرض الذي من أجله كان القصاص وكان العفو أو كان العدل وكان الإحسان حيث يقول سبحانه من جهة العفو: “ذلك تخفيف من ربكم ورحمة، فمن اعتدى بعد ذلك فله عذاب أليم”. ويقول من جهة القصاص: “ولكم في القصاص حياة يأولي الألباب لعلكم تتقون” قال السيد رشيد رضا “وهذا تعليل لشرعية القصاص وبيان لحكمته، وقدم عليه تعليل العفو والترغيب فيه والوعيد على الغدر بعده، عناية به، وإيذانا بأن الترغيب في العفو لا يستلزم تصغير شأنه” إذ الاكتفاء بالدية لا يردع كل أحد عن سفك دم خصمه إن استطاع، فإن من الناس من يبذل المال الكثير لأجل الإيقاع بعدوه” كما أن الاكتفاء بالقصاص يجعل الحياة خالية من المروءة والتراحم والتعاطف والعفو والإحسان، من ثم كان لابد منهما معا، فهما مرتبتان : القصاص وهو العدل، والعفو وهو الفضل والإحسان، أو بتعبير آخر إن ما يقرره الله سبحانه وتعالى في هذا التعقيب هو : “أن الحياة هي المطلوبة بالذات وأن العفو والقصاص ما هما إلا وسيلتان من وسائلها…
العدالة في الحروب والعقوبات
هذا ولكي تكتمل الرؤية في القصاص أو العدالة في النفوسي، يجب أن نضيف إليها ما اصطلح عليه بالمماثلة في الأفعال والحروب والعقوبات، وهنا نجد عدة آيات تتحدث عن هذه المماثلة، كقوله تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ (النحل 126) وقوله سبحانه: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا (الشورى 40) ثم قوله: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ (البقرة 194).
يقول الإمام القرطبي في تفسير الآية الأخيرة: “لا خلاف بين العلماء أن هذه الآية أصل في المماثلة في القصاص، فمن قتل بشيء قتل بمثل ما قتل به وهو قول الجمهور” وقد استدلوا على ذلك –بالإضافة إلى الآيات-بحديث أنس أن يهوديا رضّ رأس جارية بين حجرين، فرضّ رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه بين حجرين” بل إن العلماء اتفقوا على أنه إذا قطع يده، ورجله، وفقأ عينه قصد التعذيب، فعل به ذلك” ثم قال: وأما النهي عن المثلة فنقول أيضا بموجبها، إذا لم يمثل فإذا مثل مثلنا به. يدل على ذلك حديث العرنيين، وهو صحيح أخرجه الأئمة”.
كذلك نجد السيد رشيد رضا يقول في تفسير الآية: وقد استدل الإمام الشافعي بالآية على وجوب قتل القاتل بمثل ما قتل به، بأن يذبح إذا ذبح، ويخنق إذا أخنق، ويغرق إذا أغرق وهكذا، وقال مثل ذلك في الغصب والإتلاف. والقصد أن يكون الجزاء على قدر الاعتداء بلا حيف ولا ظلم”.
غير أن الإمام ابن العربي يرى أن “الصحيح من أقوال علمائنا، أن المماثلة واجبة إلا أن تدخل في حد التعذيب فلتترك إلى السيف”.
ثم قال السيد رشيد رضا عن المساواة في الحروب بعد الشرح السابق لقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ : “وأزيد على هذا ما هو أولى بالمقام، وهو المماثلة في قتال الأعداء، كقتل المجرمين بلا ضعف ولا تقصير، فالقاتل بالمدافع والقذائف النارية والغازية السامة، يجب أن يقاتل بها، وإلا فاتت الحكمة لشرعية القصاص، وهي منع الظلم، والعدوان، والفتنة، والاضطهاد، وتقرير الحرية والأمان، والعدل والإحسان”.
الإحسان في العقوبات
-هذا وكما يفتح الحق سبحانه وتعالى باب العفو في القصاص في النفوس يفتحه كذلك في باب المماثلة في الأفعال حيث يقول سبحانه في الآيات التي سبق ذكرها في هذا المجال: وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ بعد قوله: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ ، ويقول أيضا: فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ، بعد قوله سبحانه: وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا (الشورى 40-43) ويقول سبحانه أيضا: وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بعد قوله سبحانه: فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ (البقرة 134). ويقول سبحانه: وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ بعد قوله سبحانه: وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ.
العقوبة فيما دلت عليه العقول
ج- هذا عن عقوبة الإعدام فيما دلت عليه المقاصد الشرعية، والنصوص القرآنية، وأما عنها فيما دلت عليه العقول ، فيمكن القول فيه انطلاقا مما يقوله المفكر اللبرالي “راولز” في أحد فصول كتابه (نظرية العدالة)، وهو الحامل لعنوان: الإحساس بالعدالة :إن التعامل بالمثل، تلك النزعة للرد على الشيء بما يماثله… هو حقيقية سيكولوجية عميقة الجذور… إنها قدرة على الإحساس بالعدالة، مبنية على استجابات مماثلة في النوع، ويبدو أنها أحد شروط العيش المشترك بين البشر”ويقول أيضا: إن أكثر التصورات ثباتا واستقرارا عن العدالة، هي على ما يبدو ظاهريا، تلك التصورات التي يستند فيها الإحساس الراسخ بضرورة العدالة، إلى هذه النزعات”نزعات التعامل بالمثل.
ويقول كذلك دفيد جوستون، مؤلف كتاب: مختصر العدالة: ربما كان الشيء المثير للاستغراب أكثر، أن الناس غالبا ما يتمادون في الانتقام من أشخاص آخرين ألحقوا بهم الأذى إذا استطاعوا ذلك، ليس من المستغرب إذن أن يرد الناس بالمثل، أو ينتقموا من أشخاص ارتكبوا جريمة، أو سببوا نوعا من الأذى حتى ولو لم يكونوا هم الضحايا، بل حتى عندما يكون الرد بالمثال فادح الثمن بالنسبة إليهم. صحيح أن استعداد الناس لتحمل الخسائر من أجل أن يتصرفوا بإنصاف أو يعاقبوا غيرهم على تصرف جائر يتباين إلى حد بعيد من إنسان إلى آخر، وصحيح أيضا أن التصورات عما يعتبر ردا عادلا، تتباين بشكل بارز من ثقافة إلى أخرى، مع ذلك فإن الدراسات التي تناولت السلوك المتعلق بالإنصاف، وشملت ثقافة واحدة أو ثقافات متعددة، فقد وجدت الناس عموما تحفزهم اعتبارات التعامل بالمثل، ويبدون استعدادات لأن يقدموا تضحيات شخصية من أجل تلبية متطلبات التعامل بالمثل”.
ثم يقول: “في وسعنا القول بشيء من الثقة، أن الإحساس بضرورة التعامل بالمثل ضمن علاقات الناس، سوف تكون السمة الأساسية في أي نظرية للعدالة تطرح مستقبلا، ويراد لها أن تكون مقنعة”.
وبعد، هذا ما نطقت به المقاصد الشرعية، وما نطقت به النصوص القرآنية، وما نطقت به عقول العلماء…
ثم هذا ما تفرد به الإسلام في فلسفته القائمة على التداخل بين العدل والإحسان أوعلى التعظيم لأمر الله (العدل) والشفقة على خلق الله…فهل لهؤلاء الذين يحسبون أنهم يحسنون صنعا في مسعاهم بحدف عقوبة الإعدام، أن يقدموا لنا ما تقوم عليه رؤيتهم؟
أنزه من نصب نفسه للدفاع عن حقوق الإنسان، وأنزه كذلك المحامين الذين هم جزء لا يتجزأ من مؤسسة العدل، أن تقع منهم الغفلة عن حقوق القتلى وأوليائهم المستضعفين، وعن الغلو في الدفاع عن القتلة المجرمين.
0 تعليق