أصيلة.. منارة الثقافة

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

ترك رحيل الوزير الأسبق “محمد بن عيسى” ومؤسس ورئيس منتدى أصيلة الثقافي حزنا كبيرا وسط أهل الثقافة والفكر في المغرب والمشرق على حد سواء. ومن خلال متابعة مقالات كتبت في هذا الشأن في عدد من وسائل الإعلام العربية، نجد أنها تفيض بمشاعر جياشة لدى كتابها الكبار من رجال الفكر والثقافة والسياسة، الذين كتبوا في رثاء مؤثر لشخص الفقيد الراحل، وتقدير مستحق لمكانة مدينة أصيلة التي أصبحت مبعث فخر لأهلها وللمغاربة جميعا. ذلك أن الراحل جعل منها منارة للثقافة بلا منازع، بفضل موسمها الثقافي السنوي المتميز “منتدى أصيلة” الذي أسسه قبل أزيد من أربعة عقود، وجعل منها محجا سنويا للمثقفين من إفريقيا والعالم العربي، فترك بذلك أثرا باقيا، وإرثا غاليا، ورفع اسم المدينة والمغرب عاليا في دنيا الثقافة والفكر والإبداع.

الجميل في قصة الراحل محمد بن عيسى هو ذلك الرابط بين الشخصية والمكان، فكيف يستطيع شخص أن يصنع لنفسه ولمدينته ألقا وحضورا وإشعاعا يطوى المسافات، مغربا ومشرقا وقاريا.. بل ويحلق بها نحو العالمية. نموذج مغربي متفرد، لشخص ومدينة، يستحق التأمل، ويستأهل أن يكون مثالا يحتذى به، وطنيا وعربيا وقاريا ولم لا عالميا، نموذج يمثل قدوة للشباب، لا سيما المنتخبين منهم والعاملين بالشأن المحلي، من أجل النهوض بمدنهم وقراهم ومسقط رأسهم، من خلال مبادرات مبتكرة، وإبداعات خلاقة، تستطيع أن تخرجها من مجاهل النسيان، وترتقي بها إلى مصاف الحواضر العالمية، وأن تسمو بهم هم إلى مركز المتألقين والرواد، فيشكل ذلك قيمة مضافة تعود بالنفع والخير على المسيرة التنموية للبلاد.

ومن بين الملاحظات التي استوقفتني في هذا الشأن ما يلي:

– تحت عنوان “ألق الحضور والغياب” كتب الكاتب سمير عطا الله في جريدة “الشرق الأوسط” قائلا في حق الراحل “بن عيسى” ومدينته أصيلة: “كان كنزا مليئا بالأخبار والأسرار واللطائف. وقد وضع هذا الكنز في خدمة أصيلة التي أخرجها من المدن الصغيرة المنسية لتصبح اسما، وعلما، ونجمة من نجوم الساحل. ومع السنين لم يعد معروفا إن كانت أصيلة قطعة من المشرق على الضفاف المغربية، أو العكس. ولا كان ذلك مهما. المهم دائما كان ‘العامل على أصيلة’ لما كان أمير المؤمنين يسمي ولاته على المقاطعات”.

– (“سي بن عيسى” طِبتَ حيًا..) عنوان مقال كتبه الكاتب مصطفى حجازي في جريدة “المصري اليوم”، ومما جاء فيه: “صاحب هذه السيرة هو الإنسان «محمد بن عيسى»، وزير الثقافة ووزير الخارجية الأسبق في المملكة المغربية، وقبل ذلك وبعده هو ابن مدينة أو قرية أصيلة المغربية، وعُمدتها في لاحق وباعث روحها ثقافة وجمالا وفكرا بمؤسسة «منتدى أصيله الثقافي».. تلك التظاهرة الفكرية الثقافية الفنية التي بدأت قبل خمسة وأربعين عاما من الحلم والمجاهدة والكد والمثابرة والجمال.. سيرة «محمد بن عيسى» حَرِيُة بالتأمل وجديرة بالدرس.. “.

– ومن جريدة “الشروق” المصرية نطالع مقالا للكاتب سيد محمود بعنوان “في وداع رجل أصيل من أصيلة” جاء فيه أن محمد بن عيسى: “استطاع بهمة وذكاء أن يحول مدينة أصيلة من قرية صيادين إلى عاصمة للثقافة والفن في العالم، وجعلها مقصدًا سياحيًا يعرفه كل المهتمين بالجمال في العالم ويليق بمدينة كريمة بهية لا تكف عن اختراع الألفة.. وسواء كنت ممن اتفقوا مع منهج الرجل أو من بين الذين خالفوه لأسباب إيديولوجية فأنت لا تستطيع تجاهل المكانة التي بلغتها (أصيلة) بين المثقفين المغاربة والعرب والأفارقة، كما لا يمكن أيضًا تجاهل الحرية التي كانت تحظى بها منتدياتها في مجالات الفكر والأدب والاقتصاد؛ فقد كانت ظاهرة لا تقل أهمية عن منتدى دافوس الذي يحظى بشهرة عالمية”.

– الكاتب خير الله خير الله كتب مقالا بعنوان “محمد بن عيسى.. قصة رجل ومدينة” في موقع “العرب اليوم” أوضح فيه “كيف جعل محمد بن عيسى من أصيلة ينبوعا دائما لثقافة الحياة ومكانا ينتج ابداعا ونقاشات سياسية على أعلى المستويات في أثر المواضيع دقة وحساسية.. سيذكر التاريخ محمد بن عيسى بأنه عمل ما لم يستطع كثيرون عمله من خلال أي موقع شغله.. وضع أصيلة على خريطة المغرب وعلى الخريطة العربية والافريقية والدولية. بقي الموسم فكرة تتطور كل سنة من دون عقد من أي نوع كان..”.

– ونقرأ من موقع “المجلة” ما كتبه الكاتب فاروق يوسف تحت عنوان “محمد بن عيسى صانع الجمال الذي يقاوم البؤس”: “ما أن نقول أصيلة حتى يتبادر إلى الذهن مشهد موسمها الثقافي الذي يشف عن صورة محمد بن عيسى، مؤسس ذلك الموسم.. في أكثر مراحل مسؤولياته الرسمية تعقيدا، لم يتخلّ بن عيسى عن حلمه الذي هو عبارة عن صورة مدينته وهي تخترق الخيال العالمي، مكانا يؤمّه الكتاب والرسامون والمفكرون والمؤرخون ليعلموا ويتعملوا.. لقد نفض الموسم الغبار عن جمال المدينة، فبدت أصيلة مدينة أخرى. فالمدينة التي يراها المرء اليوم مفتونا بأزقتها وأسوارها وبأطلالتها على البحر، لم تكن كذلك قبل بدء موسمها الثقافي”.

– ومن صحيفة “الأيام” البحرينية، التي أسهبت في ذكر سيرة الرجل ومسيرة مدينته أصيلة، نقرأ “كان بن عيسى الرجل الذي أعاد تشكيل مدينته الصغيرة، فجعل منها ملتقى عالميًا للحوار والتفاعل الثقافي، حيث اجتمع فيها المفكرون والفنانون من مختلف أنحاء العالم تحت مظلة الإبداع والتبادل الفكري. وبفضل جهوده، ورؤاه، وعزيمته، تبدلت أصيلة من مدينة هامشية إلى منصة تحتضن الفنون والآداب، وفضاء يعكس روح التنوع والانفتاح.. وعلى مدى أكثر من أربعة عقود، تتحول أصيلة إلى حدث ثقافي عالمي، في موسمها الذي يعاود المجيء موسمًا خامسًا من مواسم سنتها، متتاليًا عليها حدثًا جميلا، ليس مناخيًا كونيًا كباقي مواسمها، لكنه أضحى جزءًا من كينونتها”.

– يروي الكاتب سليمان جودة في مقال له بجريدة “الشرق الأوسط” تحت عنوان “أصيلة التي تَزينت ذات نهار” عن “بن عيسى” أنه “في الموسم الأخير، كانت القارة السمراء محورا أهم بين محاور الجدل والنقاش. وحين حضرتُ جانبا مما قيل كتبت أقول: «مدينة تحتضن قارة» فكتب هو إليَّ يُعلّق ويقول: «جميل جداً هو العنوان». وأضاف “جودة”: “ورغم أن أصيلة مدينة صغيرة بمقياس المساحة وعدد السكان، فقد قُيّد لها واحدٌ من بين أبنائها ليرفع لها ذِكرها في المغرب، وفي المنطقة، وربما في العالم. آمن ابنها الذي جاء إلى الدنيا على أرضها عام 1937 بأن الثقافة قيمة باقية، وأن العمل الثقافي يدوم أثره ولا ينمحي، وأن موقع المدينة الحالم على المحيط يؤهلها لأن تكون فضاءً ثقافياً، يستقبل كل ضيف فيحنو عليه ويفتح أمامه ذراعيه”.

وكما استطاع بن عيسى أن يستخدم الثقافة للتنمية في أصيلة، يمكن لأبناء المناطق الأخرى بالمغرب فعل أشياء مماثلة لبلوغ الغاية ذاتها، من خلال تعزيز الارتباط بمناطقهم، وطرق مجالات أخرى للتنمية تناسب ظروف ومعطيات كل منطقة، فتجعل منها منارات تعزز من القوة الناعمة المغربية.

يحق لنا أن نفخر بمغربنا الغني بروافده الحضارية المتنوعة، العربية والأمازيغية والأندلسية والحسانية وغيرها، وأن نعتز بمدنه وقراه، فكلها أصيلة، وجميعها فتية، طموحة وقادرة، بتراثها المادي واللامادي، وبتاريخها العريق وجغرافيتها الفريدة، وبطبيعته الخلابة، وبمواردها البشرية، سواء القاطنة فيها أو المهاجرة، قادرة -بحول الله- أن تتغير لأفضل حال وأن تصبح لألئ وجواهر تنافس نظيراتها في العالم المتحضر، ما توافرت الإرادة، والعزيمة، والكفاءة، والتخطيط السليم، والعمل الدؤوب والمنسق، وقبل ذلك وبعده حب الوطن، فمحبة الأوطان من الإيمان.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق