هل المغرب محق في تفضيل الحليف الأمريكي؟

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

تعد أمريكا من الدول الأكثر تشبثا بالإيديولوجية الليبرالية. ابتدأ اكتساح العالم بفكرة “دعه يعمل، دعه يسير”، مباشرة بعد سقوط جدار برلين. العالم يتذكر إعلان بوش جينيور للنظام العالمي الجديد في خطاب رسمي. انتصر رواد الحرية والملكية الخاصة لوسائل الإنتاج، تأسست المنظمة العالمية للتجارة، ونظمت دورات لبلورة وتنفيذ قواعد تحرير حركية السلع والخدمات ورؤوس الأموال. تمت دعوة دول العالم بسرعة فائقة إلى تحديث ترساناتها القانونية وبنياتها الاقتصادية استعدادا للتفاعل الإيجابي النافع مع العالم الجديد أحادي القطبية، كما تمت دعوتها إلى مواجهة كل النزعات المقاومة بترسيم قوانين لمحاربة الإرهاب والاحتكار. وانطلق العام بنظام سياسي واقتصادي جديد شاهرا سلاح العقوبات الدولية لردع المخالفين أو المقاومين.

المنتصر، بعد تعاقب سنوات عقود الحرب الباردة، جعل من الحرية أساس النماء والتفوق الذاتي والوطني والجهوي والحضاري. التنمية القطرية أصبحت مرتبطة أكثر بسرعة حركية المعلومة والفكرة العلمية بين الأفراد والجماعات.السياقات المجتمعية في دول الجنوب الهشة أصيبت بالذعر. ارتفعت الأصوات مطالبة بتحديث المؤسسات على أساس المسؤولية والانفتاح. لم يعد أمام الأنظمة السياسية من حل سوى ترسيخ الخلاصات في الأذهان سعيا إلى تقوية التماسك بين أفعال وسلوكيات شعوبها، وإعدادها لانتهاج العقلانية في تقبلها للمعارف المتنوعة وتطور التكنولوجيا والعلوم المختلفة.

إنها أشهر المنعطفات السياسية والاقتصادية التي عرفها تاريخ البشرية، إنها الخلاصات التي استحضرها المفكر التاريخاني الدكتور عبد الله العروي مبكرا في كتابه “خواطر الصباح، يوميات (1967 – 1973)”؛ لقد طرح إشكالية الهدر الزمني القاتل عربيا ومغاربيا، مقدما مفاتيح وآليات لربح الوقت، محتكما إلى التجارب التاريخية الغربية؛ لقد استحضر الثورات الثقافية الغربية في القرنين السابع والثامن عشر، إضافة إلى ما تجسد من وضوح تام في التعاطي مع مفهوم القطيعة المنهجية والإبستمولوجية مع تراث الماضي؛ لقد برهن بالتفاصيل المقنعة كيف تم إفراز النموذجين الحضاريين الغربيين المتباينين: النموذج الأمريكي والنموذج الأوروبي.

التراكمات الأمريكية الإيجابية، التي حولت دولة العم سام إلى أقوى دولة عالمية، هي التي مكنتها اليوم أن تكون الأكثر تأثيرا على القرارات الدولية؛ لقد نجحت إلى حد بعيد في توطيد مقومات تفعيل شعار “أمريكا أولا”. إن عهد الرئيس ترامب حول مصلحة أمريكا المادية إلى أولوية الأولويات. وإن تطورات سنة 2025 تنم وكأن الصراع الإيديولوجي الذي احتد لعقود بين المعسكرين الغربي والشرقي قد يضعف أو ينتهي. إن ترجيح فرضية توافق الأقوياء على “المصلحة أولا” سيضع لا محالة دول الجنوب تحت وطأة الأزمات والفقر والجوع.

لقد أبرزت تطورات الأحداث التاريخية المعاصرة أن انشغال أمريكا الأساسي يتجلى في حرصها الدائم على ترصيص الأسس المعرفية والثقافية الضامنة لاستمرارية تفوقها العالمي في مجمل القطاعات الحيوية. لقد صقل الأمريكان التراث الحضاري البريطاني متجاوزين إياه في كل المجالات. التربية والتكوين والتنشئة بالولايات المتحدة الأمريكية تخضع لشروط الجودة العليا، وقوة ارتباطاتها بالدرابة اليدوية والعقلية والمعرفة الثقافية ووفرة الإنتاج المادي والاطلاع الواسع على القانون وثقافة تدبير الشأن العام. على النقيض من ذلك أكدت صفحات التاريخ أن ما ورثته المجتمعات العربية والمغاربية من الدول المستعمرة لم يتحول إلى فرص سانحة لتسريع تحقيق النماء على أساس نجاعة فعل الموارد البشرية والرفع من مستوى تفاعلها مع الطبيعة بإمكانياتها وقواها، وما تستدعيه من كشوفات علمية وتقنية للسيطرة عليها وسبر أغوار أسرارها.

العروي، بذكائه الخارق وفكره المستنير، فصل للمتتبعين مبكرا المآلات والمصائر، لقد أكد منذ عقود في كتابه سالف الذكر أن الأمريكيين (ص 45) يتكلمون كما يتنفسون (كلام ديمقراطي) وبدون تمتمة الإنجليز المصطنعة (كلام أرستوقراطي).. الطلبة الأمريكان غير معتادين على “التصميم”؛ وأضاف أنه ليس مقتنعا بأن الطريقة الكلاسيكية التي يفتخر بها الأوروبيون، التي ورثناها نحن المغاربة المحدثون عن الفرنسيين، هي المثلى. نعم، يبرر العروي، إن “التصميم” يفرض أحكاما مسبقة، ويحد من حرية التفكير. قلما نجد عند الطالب الأوروبي، وبالأحرى العربي، تلك العفوية التي نلمسها عند الأمريكي. كلما ضعف مستوى الحرية كلما زادت حدة التمتمة في النقاشات والجدالات والمبالغة في “تصميم” الخطابات السياسية والإفراط في النفاق الاجتماعي والثقافي، وكلما توسعت الهوة بين العقلين النظري والعملي …إلخ.

وللتعبير عن المفارقات سالفة الذكر، بين الحضارتين الأمريكية والأوروبية، قدم لنا العروي في الكتاب نفسه ما وقع لزوجته لطيفة في أمريكا: “هذا الصباح طرقت لطيفة باب مكتبي وهي في غاية الاضطراب، قالت إنها كانت تقود السيارة في طريقها إلى الجامعة والمطر يتهاطل بغزارة، وشعرت بأنها اصطدمت بشيء، لكنها لم تعرف ماذا بالضبط؛ فضلت أن تلحق بي في الحال وتخبرني بالحادث، قالت إنها لا تعتقد أن أحدا رآها، إذ بدت لها الطريق فارغة تماما. هدأت روعها وطلبت منها أن تذهب في الحين عند الطبيب ليكشف عن حقيقة حالها. بعد نصف ساعة تقريبا حضر شاب قال إنه طالب في الجامعة، وإنه صاحب السيارة. كيف توصل إلي؟ هذه هي لوس أنجلس! هذه هي أمريكا! تظن أنك وحيد في صحراء ثم تكتشف أن كل ما تقوله يسجل وما تفعله يصور. اللافت للانتباه هو أن هذا الطالب الذي لا يتجاوز عمره العشرين سنة كلمني بهدوء ورصانة كما لو كان محاميا محنكا؛ قال إنه لا يود أن يذهب إلى القضاء، إذ لا يليق بطالب أن يقاضي أستاذا رغم أن المخالفة تعد من أخطر المخالفات في أمريكا. وشرع يحكي ما حصل لبعض من غادروا مكان الحادث وكيف أدى بهم ذلك إلى الإفلاس. وأخيرا اقترح علي أن نتفاصل على أساس أن أتحمل تكاليف إصلاح سيارته وتعويضه على مصاريف النقل أثناء عملية الإصلاح؛ قال هذا وهو مقتنع بأنه يحسن إلي”. وتعقيبا على هذا الحدث دعانا العروي إلى أن نقارن بين التربية التي أدت إلى هذا التصرف وتربيتنا نحن، إذ نجد الشاب عندنا فوق العشرين لا يقدم ولا يؤخر رجلا إلا مصحوبا بأحد أقاربه، وأضاف: “قبل الحماية كان ابن السابعة عشرة يغامر لأنه كان يعرف قواعد المجتمع. كانت تربيتنا ملائمة للواقع. ثم جاء الاستعمار فأقصى المغاربة عن المجال العمومي، حاصرهم في بيوتهم أو بيوت الله فأصبحوا كلما تخطوا عتبتها يواجهون عالما غريبا عنهم يجهلون قواعده. هذا هو أصل العجز المتمكن في نفوسنا”.

تعبيرا عن جودة التعليم الأمريكي تطرق العروي في الكتاب نفسه لطبيعة العلاقة بين المتعلم والأستاذ: “لا يسجل بين قائمة المستمعين إلا من له اهتمام حقيقي بالموضوع. الطالب هناك كالمشاهد في قاعة العرض، أدى ثمن المقعد فينتظر أن يستمع إلى محاضرة شيقة، ينصت، يتفهم، لا يضيع أي دقيقة، إذ الدقيقة ثمينة… الأستاذ في أمريكا يحضر كل يوم عمل إلى مقر الجامعة – الدراسة مكلفة – لا يضيع وقتا يساوي مئات الدولارات. يلح أن يكون الأستاذ تحت اليد كلما احتاج إلى إرشاده (العادة: الأستاذ يترك باب مكتبه مفتوحا)”.

الفجوة بين تطور الحضارتين الأمريكية والأوربية تتفاقم، وهذا المنحى يتضح بجلاء في سياسة أمريكا ترامب؛ إنه لا يتردد في انتقاد الأوروبيين وتحذيرهم. على لسان لطيفة يقول العروي: “لا وجه للمقارنة بين الطبيب الأمريكي والطبيب الفرنسي. لا ينحصر امتياز الأول في جودة التجهيزات بل يتعلق أساسا بالعناية. تتكلم طويلا عن حرارة الدكتور ديغنم وعن برودة واستعلاء فيلي الفرنسي الذي لم يستطع إنقاذ نعمان”.
خاتمة

أمريكا تتقدم بخطى ثابتة في منحاها التنموي للحفاظ على زعامتها للعالم. في الآن نفسه، ميول الأمريكان إلى تفضيل المصلحة يجعلهم منشغلين بالتركيز على تطور الأوضاع في الصين وروسيا والهند. فتطور المواقف في شأن القضية الأوكرانية ينبئ وكأن العالم سينعطف إلى اتجاه جديد. الميول المغربي لتفضيل التحالف مع أمريكا والحفاظ على علاقات ناعمة مع الدول المتقدمة الشرقية يحمل أكثر من دلالة؛ فجهود بناء الحداثة بالبلد، بتراكمات سياسية وجهود لعصرنة مؤسساته واقتصاده، شرعنت إلى حد ما نعت أوضاعه بالخصوصية مقارنة مع الدول العربية والإفريقية.

ثقل الموروث الثقافي والسياسي بهذا الوطن الفتي، المغرب، مازال يمارس ضغوطا مكبلة لإرادة التغيير. إن تواكل عدد كبير من الأفراد واعتمادهم على الوساطات في استغلال التسهيلات التي تقدمها التكنولوجيات الحديثة والمعلوميات للاستفادة من الخدمات العمومية والخاصة يثير نوعا من القلق. المواطن يقاوم بشكل لا إرادي عروض تقوية مواطنته، مفضلا المكوث في وضعية الرعاية. عدد كبير من الفاعلين في القطاعين الخاص والعام (إخواننا وأخواتنا وأصدقاؤنا وأقربائنا…) يقاومون إرادة التغيير بسبب استمرار مقومات “الدولة الرخوة” التي تمكنهم من استغلال وضعية الجمود وجني المنافع غير المشروعة. الأطفال يهيمون في الشارع العام بدون تأطير أو مراقبة، يتعرضون للعنف ولمختلف الاعتداءات المادية والمعنوية وحتى الجنسية أحيانا. الآباء والأمهات عاجزون عن توجيه وتربية أبنائهم الشباب المراهقين….

وعليه، لا يمكن ضمان النجاح في ترجيح فرضية الميول للتحالف مع أمريكا إلا عندما تنضج الشروط والظروف التي تمكن مصادر القرار من استنباط الدروس والعبر من منظومة التنشئة في هذا البلد القوي. فإذا كانت الآليات التكنولوجية والمنظومات المعلوماتية أوعية زاخرة بمقومات الحداثة ودعامات لتقوية المواطنة في التعبيرات السلوكية للمواطن فإن مسار اكتساب ثقافة اعتمادها شاق للغاية. إن الحاجة إلى توضيح تغيير أسس النموذج التنموي أصبحت ذات ملحاحية كبيرة.

علينا اليوم، كمغاربة، أن نصرخ بكل ما نملك من قوة في فضاء الغربان التي تنعق فوق رؤوسنا متوقعة نهايتنا. علينا أن نردد على مسامعها: نحن ذوات لا تحتضر، عزائمنا تتجدد، فلا تنتظرون رحيلنا عن تراب وطننا أو التفريط ولو في شبر من ترابه. لتكون الآفاق المغربية واعدة. على المغاربة طلب الكلمة وبسرعة قبل فوات الأوان. علينا على الفور أن نعمق التفكير وطنيا في المرأة والأسرة والتربية والتعليم.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق