فلا يسعك إلا أن تتعجب ممن تجده يجمع بين أمرين متناقضين التناقض التام. يجمع من جهة بين حسن أداء الشعائر من صلاة وصوم وزكاة وعمرة وحج مع دوام السؤال عن أدق التفاصيل في أدائها، ومن جهة ثانيّة بين الإدمان على ظلم نفسه وظلم العباد وبضمير مرتاح وهو لا يبالي. لكن ما يلبث أن يطير العجب لما تكتشف أنه يصلي ويصوم على أحسن وجه مع التدقيق في تفاصيل أدائها، ويداوم حتى على قراءة القرآن ويتلوه وحتى يرتله، ويزكي أمواله إذا لزمه الأمر ويحج ويعتمر بقدر ما يستطيع، لكن كل ذلك فقط بنيّة اكتساب جبال من الحسنات كي تمحو، في اعتقاده، كل ما يكتسبه يوميا من ذنوب وسيئات بظلمه لنفسه وظلم العباد.
صحيح أنه بذلك هو يخشى حقا عقاب الله على ما يقترفه من ذنوب وسيئات. لكنه يعتقد أنه بتلك النيّة في أداء الشعائر يكون قد كفّى ووفّى ولم يبق عليه شيء من تلك الذنوب والسيئات كي يُسأل عنها يوم الحساب. وإذا ما اتسع أداء الشعائر بتلك النيّة فلا تستغرب من انتشار الفساد في البلاد ومن غياب الأمن على حرمات العباد من دون الخشية من أي عقاب، اللهم رادع الخوف من السلطات الأمنيّة ومن السلطة القضائية.
ولسنا في حاجة للتذكير بأن ذلك متناقض تماما مع الغاية الأسمى من إرسال الرسل وتنزيل الكتب، لقوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ۖ…﴾ [الحديد: 25]. وأداء الشعائر بتلك النية يتنافى كليا مع هدف قيام الناس من إرسال الرسل وتنزيل الكتاب.
فأداء للشعائر بتلك النيّة المخادعة، هو من قبيل “غسيل الأموال” بين البشر، بقصد إخفاء الطرق غير المشروعة لاكتسابها وجعلها تبدو وكأنها جاءت من مصادر قانونيّة. سوى أنه يمكن خداع المخلوق ولا سبيل أبدا لخداع الله الخالق الذي يعلم السر وأخفى. فيصدُق على من يؤدي الشعائر بتلك النيّة قوله تعالى: ﴿يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ﴾ [البقرة: 9].
والأخطر من كل ذلك أنه في أدائها بتلك النيّة إثم “سوء الظن بالله تعالى”، لما فيه من تشبيهه، تعالى سبحانه عن ذلك علوا كبيرا، ببشر صاحب سلطة وفقير لما عند غيره من العباد، فيقبل منهم الرشاوى مقابل منحهم امتيازات غير مشروعة أو مقابل التغاضي عن أعمال ممنوعة. وهذا التصور المريض، وإن لم يُصرّح به بلسانه صاحب تلك النيّة في أداء الشعائر، فإنه يؤكده بلسان حاله وهو يحسب أنه يحسن صنعا. ويغفل عن أن الله تعالى غني، ليس فقط عن عبادة العباد التي من أجلها خلقهم بل غني عن كل ما خلق. ومن ذلك غناه عن أداء الشعائر المفروضة عليهم. فإن لم تنفعهم في دنياهم وأخراهم فلا قيمة لها عنده. فمن يعظّم شعائر الله منهم هو من يؤديها بنية أن تمكنه بإذن الله من العيش عيشة طيبة في الدنيا ومن الزحزحة عن النار والفوز بالجنة في الآخرة. فما هي عمليّا التي بها ينبغي أداؤها؟
من يريد كما ينبغي الانتفاع بأدائها في دنياه قبل أخراه، عليه أن يؤديها بنيّة الاستقواء بها على كل من نفسه الأمارة بالسوء ووسوسة عدوّه الشيطان، كي يعصاهما ويطيع الله تعالى، فيجتنب بقدر ما يستطيع ظلم نفسه ولا سيما ظلم غيره من الناس، ويعاملهم بالعدل والإحسان كما أمره الله بذلك، ثم يصدّق بعمله تلك النيّة في حياته اليومية بين العباد. وبذلك فقط يجازى مرتين. ينال من جهة حسنات أداء الشعائر المفروضة بتلك النيّة الحسنة وينال من جهة ثانيّة حسنات العمل بها بين الناس الذي يُصدّقها. فكيف يلزمه أن يؤدي كل من تلك الشعائر بتلك النيّة الصحيحة؟
الصلاة أولا كلها دعاء. ومعنى الصلاة لغة هو الدعاء. فيدعو فيها المصلي في كل ركعة بقوله: ﴿اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ. صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾، وذلك بنيّة الاستقواء على النفس والشيطان فيعصاهما يطيع الله تعالى في حياته اليومية. وحتى يستجيب الله لدعائه ذاك، عليه أن يبدأ هو بالسير في الصراط المستقيم، فور خروجه من الصلاة واتصاله بالعباد ابتداء من أسرته، فيتعامل معهم بالعدل والإحسان مع الحرص على اجتناب ظلمهم. وحينها فقط يستجيب الله لدعائه فيزيده هدى لقوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ﴾ [سورة محمد: 17].
أما من يخرج من الصلاة ويسهى عن دعائه ذاك المتكرر في كل ركعة، ويطلق لنفسه العنان في ظلم نفسه واستباحة حرمات العباد، فإنه يكون من المصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون أي عن دعائهم ذاك ساهون، والذين توعدهم الله بالويل في الآخرة بسبب ما اقترفت أيديهم من سيئات بعد كل صلاة. وذلك لقوله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ﴾ (الماعون : 4-5). ويتجلى ذلك الويل في حديث “المفلس يوم القيامة” الذي رواه مسلم في صحيحه.
والصوم كما ينبغي، بنيّة الاستقواء كذلك على كل من النفس الأمارة بالسوء وسوسة الشيطان، هو الذي يستبطن به الصائم نيّة ترويض النفس على الصبر عند الامتناع عمّا يزيّنانه له من ظلم نفسه ومن انتهاك حرمات العباد. وذلك مثلما يصبر بالصيام على شدة العطش والجوع عن الطيبات من الشراب والطعام طيلة صيام شهر رمضان، لقوله تعالى: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ [البقرة: 45]. وفُسّر لفظ الصبر في الآية الكريمة بالصيام لما فيه من صبر على الجوع والعطش.
وإخراج الزكاة كما ينبغي، لمن تجب عليه، بنيّة الاستقواء دائما على كل من النفس الأمارة بالسوء ووسوسة الشيطان، هو الذي يستبطن به مخرجٌها نيّة ترويض النفس على أداء الأمانات إلى أهلها كاملة وفي أجلها من دون تسويف. وذلك لقوله تعالى: ﴿وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَّا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا..﴾ [آل عمران: 75]، لما في الآية الكريمة من ثناء على الصنف الأول ومن ذم للثاني. فعلاوة على ما في إخراج الزكاة من واجب تطهير المال، فيه أيضا وبلا شك بتلك النية تطهير للنفس من الشحّ ومن الطمع في أكل أموال الناس بالباطل، مثل المطففين ومثل الذين يأكلون التراث أكلا لمّا وهم لا يبالون.
وأداء فريضة الحج كما ينبغي، لمن استطاع إليه سبيلا، بنيّة نفس الاستقواء على كل من النفس الأمارة بالسوء ووسوسة الشيطان، هو الذي يستبطن به الحاج نيّة الاتعاظ بمجمل مناسكه، ولا سيما بمنسك الوقوف بعرفة لقوله صلى الله عليه وسلم “الحج عرفة، فمن جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج” رواه الترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه الألباني. المنسك الذي ينبغي أن يذكّر الحاج بمشهد يوم الحشر، يوم لا ينفع مال ولا بنون، والذي لا رجعة منه. وبتلك النيّة يتعظ لما يرجع من حجه، فيؤدي ما تبقى في ذمته من حقوق للعباد، ويصلح ما أفسده بقدر ما يستطيع، ويعمل قدر الإمكان على اجتناب اكتساب المزيد من الذنوب والسيئات وعلى اكتساب بدلا من ذلك المزيد من الحسنات بالإحسان لنفسه ولا سيما لكل من حوله من العباد ابتداء من أسرته، ولو بحسن المعاملة التي لا تكلف ما لا يطاق، لقوله صلى الله عليه وسلم (في تبسُّمُكَ في وجْهِ أخيكَ لَكَ صدقةٌ وأمرُكَ بالمعروفِ ونَهيُكَ عنِ المنْكرِ صدقةٌ وإرشادُكَ الرَّجلَ في أرضِ الضَّلالِ لَكَ صدقةٌ وإماطتُكَ الحجرَ والشَّوْكَ والعظمَ عنِ الطَّريقِ لَكَ صدقةٌ وإفراغُكَ من دلوِكَ في دلوِ أخيكَ لَكَ صدقةٌ) رواه الترمذي في سننه. كل ذلك استعدادا ليوم الحشر الذي لا رجعة منه.
والشيء نفسه بالنسبة حتى لقراءة القرآن الكريم وتلاوته وترتيليه، بنيّة الاستقواء كذلك على عصيان كل من النفس والشيطان وطاعة الله تعالى بما يتضمنه من أحكام ومواعظ ووعْد ووعيد، متبوعا بالعمل الصالح بين الناس الذي يصدق تلك النيّة، من أجل نيل كل من حسنات قراءته وحسنات العمل بأحكامه ومواعظه.
ومن يظن، في الختام، أن أداء الشعائر يمحو ذنوبه مع إصراره على الظلم المتعمّد وليس بالخطأ وهو كاره، فقد أساء الظن بالله، وظلم نفسه قبل أن يظلم غيره، لأن الحسنات التي ظن أنه قد اكتسبها بتلك النية لن يجد منها شيئا يوم العرض، بل يكتسب بسببها عوضا عن ذلك مزيدا من الذنوب التي تضاف لذنوبه ولسيئاته بسبب إثم سوء الظن بالله. ولا عجب من أن يكون، والعياذ بالله، من المفلسين يوم العرض الذين يلقون في النار على الرغم من صلاتهم وصيامهم وزكاتهم بتلك النيّة السيئة. وقد حذر منها صلى الله عليه وسلم بقوله (ربَّ صائمٍ ليسَ لَه من صيامِه إلَّا الجوعُ وربَّ قائمٍ ليسَ لَه من قيامِه إلَّا السَّهرُ) رواه الإمام ابن ماجه في وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب.
أما من يؤدي كل شعيرة من الشعائر المفروضة، كما ينبغي، بنيّة الاستقواء بها على نفسه الأمارة بالسوء وعلى الشيطان، فيعصاهما ويطيع الله، كي يؤدي حقوق العباد، ويتعامل معهم بالعدل والإحسان ولا يظلمهم، فإنه يحيا حياة طيبة في الدنيا جزاء وفاقا، وينال النجاة من النار وينعم بالفوز بالجنة في الآخرة، ما دام عمله في حياته اليومية بين الناس يصدّق تلك النيّة. وذلك لقوله تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ۖ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [النحل: 97]، وقوله عز وجل ﴿… فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى. وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ﴾ [طه: 123-124]. وفي اعتقادي أن هذا الموضوع بالنظر لأهميته، يستحق أن تخصص له حصة من الوعظ وخطبة جمعة، ولو مرة في السنة.
0 تعليق