قبضة الواقع ووهم المواقع

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
قبضة الواقع ووهم المواقع
لطيفة أحميشالإثنين 17 مارس 2025 - 22:22

شبكات التواصل الاجتماعي هي أبعد من أن تكون ساحة جديدة للحوار. بمعنى أنها تجاوزت ذلك البعد الحواري والتواصلي الذي أسند إليها بداية، لتصبح ساحة حرب رقمية تتربص بالإنسان فتجعل منه دمية تتخبط بين قبضة الواقع الخانق لها ووهم المواقع التي تتلاعب بسيكولوجيته والتي توغلت في حياته بطريقة أنتجت لنا إنسانا ما عاد قادرا على تحديد موقعه. وقد صرح بهذا الاستلاب الرقمي مجموعة من مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي عبر نشر تدوينة قد تبدو للوهلة الأولى أنها مجرد دعابة مفادها: “لي فالدار كيقولو لي ديما خاشي راسك فذاك المشقوف، ولي فالمشقوف كيقولو فين غبرتي؟ نموت ونعرف فين أنا؟ عفاكم لي شافني يجيبني لي راني توحشتني”… هذه التدوينة الساخرة استطاعت أن تكشف عن مجموع الصراعات التي يعيشها الإنسان الرقمي اليوم، والتي قد نطلق عليها مصطلح “الأزمة الوجودية” هذه الأزمة التي تجعلنا نبتعد عن أهلنا وهم قريبون، باستبدالهم بعلاقات وهمية هي الأخرى لا وجود لتواصل حقيقي معها.. فنجد في النهاية أنفسنا تائهين، ضائعين، فاقدين أنفسنا، منساقين بدون وعي منا نحو حطام “الغربة/ الاغتراب”.

وبعد كل ذا، نقول إذا كان الإنسان العربي قديما قد ألف كتبا وأشعارا بسبب غربته عن وطنه واغترابه عن أهله ونفسه، فماذا يلزمنا أن نؤلف نحن يا ترى؟ ونحن المغتربون عن ذواتنا، أهلنا، كل ذا وهم فينا ومعنا، كل ذا ونحن في أوطاننا؟ أنباكي بابهم قائلين كما قال الشاعر صبحي ياسين: “وقفت على باب الأحبة باكيا، فقد بات من في القلب يا قلب نائيا” أم نقول ما جادت به قريحتنا: وقفت على باب نفسي وأحبتي ساهيًا فقد غُربْتُ عني وبات رباط الحب عاريًا؟ (والسهو هنا لا يعني الغفلة فقط، بل ذهاب القلب إلى الغير، أما عاريا فتعني بلا ضمان).

لقد حاولت إلزا غودار في كتابها “أنا أوسيلفي إذن أنا موجود، ترجمة د بنكراد ص 32” أن تشير إلى هذا التداخل بين الواقع والافتراض، فتقول: “لا وجود لفواصل بين الافتراضي والواقعي، لا لأن الافتراضي في طريقه أن يحل محل الواقع فقط، بل لأنه يعمل على توسيعه وإغنائه ليصل في النهاية إلى تغييره أيضا”. كما أشار إلى هذا التداخل الباحث سعيد بنيس في مقاله “قدوات ديجتالية تسطو على النموذج المرجعي الصادر عن جريدة كفى بريس يوم الأحد 09 مارس 2025 العدد 4975 الساعة 18:53 بتوظيف عبارة هوية مزدوجة واقعية ورقمية)”. ويظل السؤال الراهن هنا، هل يمكن للإنسان أن يستعيد نفسه التي فقدها في زمن الرقمنة؟

إن تخلص الإنسان الرقمي من الاغتراب واستعادة ذاته أمر رهين باسترجاع سيادته، وهو أمر صعب خصوصا أن أساس علم الطبيعة الحديث قائم على سيادة التقنية وليس العكس. يقول الفيلسوف هايدغر: “يمكنكم أن تفهموا أنه لا مجال للحديث عن مقاومة أو إدانة التقنية. ولكن الأمر يتعلق بفهم ماهية التقنية والعلم التقني، وحسب رأيي لا يمكن ذلك ما دام المرء يتحرك في إطار علاقة الذات بالموضوع”. بمعنى أنه لا يمكن الوصول إلى الكينونة وفقا لهذه الثنائية ذاتا وموضوعا كما الحال في الأزمنة الحديثة، لأن ذلك حسب هايدغر هو الذي أدى إلى نسيان الكون، فأصبح الإنسان بعيدا عن الكينونة، وجعل نفسه في مرتبة أدنى.

إن هذه الأزمة تجاوزت ما هو وجودي، لتشمل الجانب الأخلاقي بطريقة رهيبة يعجز العقل السليم عن استيعابها. وسنقتصر هنا على رصد بعض مظاهر الانفلات الأخلاقي من جانبي علاقتنا بالآخر، ثم علاقتنا بالدين؛ ذلك أن الأول يظهر من خلال نشر تدوينات ومنشورات في حالات من المفترض أن تكون صادمة للناشر. على سبيل المثال مشاركة نبأ وفاة الأب أو الأم أو قريب معين في الوقت نفسه الذي وقع فيه هذا الحدث. وهذا ما يجعلنا حقا محط صدمة متسائلين عن السبب الحقيقي الذي يجعل هؤلاء الأشخاص لا يعيشون أحزانهم في الواقع عوض عرضها للملأ، هل بسبب اتخاذهم مواقع التواصل وسيلة للتنفيس عن كل ما يدخلهم في حالة ضيق؟ أم أن أصلا مشاعرنا اليوم أصبحت سائلة وزائفة حتى مع أقرب المقربين لنا؟ والكارثة هنا، أن الأمر لا يتعلق فقط بأصحاب هذه السلوكات الرمادية، بل بمتتبعيهم الذين يأخذون الأمر على أنه بديهي طبيعي لا يستحق منا المساءلة أساسا، فما العيب من مشاركة منشور قد يصل إلى وضع صورة الشخص المتوفى وهو في حالة احتضار، ثم التفاعل معه برموز لا يمكن أن تعكس مشاعر البؤس في هذه الحالة، على سبيل المثال وضع زر الإعجاب أو أحببته… وكأن الفقيد عبارة عن كأس تعرض للكسر وانتهى أمره بيننا.

لا يسعنا حقا إلا أن نقول إننا نعيش إعاقة مشاعر غير واضحة بتاتا.

أما في ما يخص الأزمة الأخلاقية المرتبطة بالجانب الديني، فيكفي أن نستحضر بعض الشيوخ الذين أصبحوا يتخذون الإمامة معبرا نحو الشهرة، من خلال بث مباشر أثناء صلاتهم مع تركيزهم الشديد على هواتفهم لقراءة التعليقات. وهنا نكتفي بالقول: “إن الرجل من القبيلة إذا فسد أصلحه شيخ القبيلة كما يصلح الملح اللحم، فمن يصلح الشيخ إذا الشيخُ فسد؟

النشرة الإخبارية

اشترك الآن في النشرة البريدية لجريدة هسبريس، لتصلك آخر الأخبار يوميا

اشترك

يرجى التحقق من البريد الإلكتروني

لإتمام عملية الاشتراك .. اتبع الخطوات المذكورة في البريد الإلكتروني لتأكيد الاشتراك.

لا يمكن إضافة هذا البريد الإلكتروني إلى هذه القائمة. الرجاء إدخال عنوان بريد إلكتروني مختلف.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق