داخل حجرات الدرس تعلم جميع الإسبان خلال عهد الجنرال فرانسيسكو فرانكو القراءة والكتابة في مناهج مدرسية كانت تخطها وزارة تعليم الديكتاتور الإسباني ويطبعها رجل ذكي اسمه خيسوس بولانكو، لكن بولانكو هذا سيكتشف، بعد وفاة فرانكو بقليل، طريقا جديدا رسمه له صديقه مانويل فراغا، وزير فرانكو في الإعلام، الذي فكر في تأسيس صحيفة جديدة تواكب مرحلة الانتقال الديمقراطي في إسبانيا، وكان فراغا هو ذاته من أطلق عليها اسم “ايل باييس”، لكن سيلا من الدسائس سيجعل فراغا ينزل من عربة “ايل باييس” باكرا وسيظل بولانكو المسيطر على الصحيفة التي تحولت إلى دجاجة تبيض له ذهبا حتى إنه اشتهر بمقولته التاريخية: “لم أكن أعلم أن بيع الصحف يدر أموالا أكثر بكثير من طبع وبيع الكتب المدرسية”.
ورغم أن وراء تأسيس صحيفة “ايل باييس” الكثير من الأسرار المخفية، بيد أن لا أحد ينكر أن هذه الصحيفة لعبت أدوارا رئيسية خلال فترة الانتقال الديمقراطي وما بعدها، وبالذات عندما صارت صوتا للاشتراكيين بقيادة فليبي غونزاليث، والتصقت بهم إلى درجة أن الجميع نسي أن مؤسسيها الأوائل لم يكونوا غير حراس في معبد نظام فرانكو، بل صارت الجريدة التقدمية الأولى في البلاد ورمزا لحرية الإعلام وإحدى أيقونات الصحافة بشبه الجزيرة الإيبيرية، بل طيلة نصف قرن من الزمن لم يكن ممكنا لأي رئيس حكومة اشتراكي أن يحكم دون أن تكون له اليد العليا على “ايل باييس” تحديدا، حتى إن ثباتيرو اضطر لإنشاء “ايل بوبليكو” عندما انقلبت عليه “ايل باييس” وكانت تلك إحدى عثراته الكبرى، فهي بلا شك من أدوات السلطة تارة ومن أدوات المعارضة تارة أخرى حسب درجة القرب أو البعد من مطبخ القرارات بقصر لامونكلوا.
اليوم تعود “إيل باييس” إلى الواجهة بسبب معركة كسر عظام حامية الوطيس بين رئيس الحكومة الإسبانية بيدرو سانشيث ورجل الأعمال اللبناني/أرميني الأصل جوزيف أغورليان، صاحب مجموعة “أمبر كابيتال”، الذي استثمر 350 مليون يورو لشراء 29 في المائة من أسهم صحيفة “ايل باييس”، ليتحول بذلك إلى الرئيس الجديد لمجلس إدارة مجموعة “بريسا” المالكية للصحيفة ذاتها وشقيقتها إذاعة “كادينا سير”.
مباشرة بعد إمساكه بزمام “إيل باييس” سيصطدم رئيس مجلس إدارتها مع رئيس الحكومة بيدرو سانشيث، الذي ظل يتحكم في الخط التحريري للصحيفة الأكثر مبيعا في شبه الجزيرة الإيبيرية، بل ويشطب العناوين التي لا تروقه من داخل مكتبه بقصر المونكلوا، والسبب الظاهر للاصطدام العنيف بين رجل الأعمال ورجل السياسة، هو رفض أغورليان إنشاء قناة تلفزيونية أرضية تابعة للمجموعة لأن هذا المشروع غير مربح بالنسبة إليه وليس البتة مشروعا للمستقبل، بينما تشبث بيدرو سانشيث بالمشروع، فزاوية نظر الطرفين للموضوع مختلفة؛ فالأول يبحث عن الربح المادي والثاني يضع نصب عينيه ربحا سياسيا قد يجنيه من إنشاء قناة تلفزيونية تابعة له تخدم أجندته السياسية في أفق الانتخابات التشريعية المقبلة بإسبانيا، مثلما أن رئيس مجلس إدارة “ايل باييس” فرنسي الجنسية شرع في إجراء تغييرات في مناصب المسؤولية أطاحت بعدد من المحسوبين على سانشيث، بل وصلت معركة كسر العظام حد كتابة جوزيف أغورليان افتتاحية في جريدة “إيل بابييس” يهاجم فيها سانشيث بطريقة مباشرة ويتهمه بمحاولة السيطرة على وسائل الإعلام في إسبانيا، والأدهى أنه لم يتردد في تشبيهه بالديكتاتور فرانكو، وهو ما لم يسبق أن حصل في تاريخ صحيفة “ايل باييس” بالمطلق.
وفي مواجهته لجوزيف أغورليان يحاول سانشيث جر مجموعة فيفاندي الفرنسية المساهمة في رأس مال الصحيفة إلى صفه لمحاصرة غريمه ودفعه لمغادرة الصحيفة الإسبانية، مستفيدا من سيطرته في الوقت الراهن على شركة تيليفونيكا، أكبر شركة للاتصالات في إسبانيا المالكة لقنوات “موبيستار” والمساهمة في رأس مال وسائل إعلام عدة بإسبانيا بينها “ايل باييس”، فالمدير العام الجديد لتليفونيكا ليس شخصا آخر غير أحد المقربين من سانشيث، لكن هذه المعادلة تبدو صعبة اليوم لأن رجل الأعمال الفرنسي ذي الأصل اللبناني يطالب باقي المساهمين بتنفيذ توجهات أو وضع 350 مليون يورو على الطاولة مقابل رحيله، وهو ما يستعصي على باقي المساهمين ويزيد من تردي الوضع المالي لصحيفة “ايل باييس” التي عانت كثيرا من خسائر وهزات مالية منذ وفاة مؤسسها خيسوس بولانكو عام 2007، وجربت الرأس المال الخليجي والأوروبي، وفي كل مرة تجد نفسها وسط أزمات أشبه بالأعاصير.
يجسد الصراع داخل ردهات صحيفة “ايل باييس” أحد الفصول الدراماتيكية لصراع المال والسياسة فوق عشب الإعلام الذي يتحول هنا إلى مجرد ساحة للمعركة، وهو ما يعقد مهمة الإعلام التقليدي الذي يعيش تحديات عظيمة داخل إسبانيا في ذروة بحثه عن التأقلم مع إكراهات الثورة الرقمية وتحديات الذكاء الاصطناعي، فالغائبون الأكبر عن هذا الصراع هم الصحافيون الذين يحلمون وسط هذه الزوبعة بحلم بسيط هو ألا تتوقف عملية دفع رواتبهم.
0 تعليق