أثارت السياسات الأمريكية الصارمة ضد النشطاء المؤيدين للقضية الفلسطينية جدلًا واسعًا، حيث كشف وزير الخارجية الأمريكي، ماركو روبيو، عن إلغاء تأشيرات أكثر من 300 فرد، معظمهم من الطلاب الأجانب، بسبب مشاركتهم في احتجاجات داعمة لفلسطين داخل الجامعات الأمريكية، وفقًا لما نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" في تقرير لها.
ويأتي هذا القرار في إطار سياسات مثيرة للجدل تتبناها إدارة الرئيس دونالد ترامب الجديدة، ويعكس تحولًا كبيرًا في التعامل مع حرية التعبير والنشاط السياسي للأجانب المقيمين في الولايات المتحدة، مما يثير تساؤلات حول الحقوق المدنية، والتوازن بين الأمن القومي وحرية الرأي، والعلاقات الدولية.
من المهم استعراض تفاصيل هذا القرار، دوافعه، تداعياته، والسياق الأوسع الذي أحاط به، مع التركيز على الدور الذي تلعبه هذه السياسة في تعزيز النفوذ الأمريكي أو تعقيده داخليًا وخارجيًا.
خلفية القرار وتصريحات روبيو
خلال زيارته إلى جويانا، أعلن ماركو روبيو أن الإدارة الأمريكية ألغت تأشيرات "ربما أكثر من 300 طالبا وطالبة"، واصفًا إياهم بـ"المجانين" الذين يشاركون في احتجاجات تهدف إلى "تمزيق الجامعات الأمريكية".
جاء ذلك ردًا على سؤال حول اعتقال الطالبة التركية روميسا أوزتورك، طالبة الدكتوراه في جامعة تافتس، التي أُلقي القبض عليها من قبل عملاء أمنيين في سومرفيل، ماساتشوستس، بتهمة دعمها لنشاطات تُعتبر معادية للسياسة الخارجية الأمريكية.
وأوضح روبيو أن هذه العملية تُنفذ يوميًا، مشيرًا إلى أن الهدف هو "التخلص من هؤلاء الأشخاص" الذين يُنظر إليهم كتهديد للنظام العام والأمن القومي.
روبيو، الذي تولى منصب وزير الخارجية في يناير 2025 مع عودة ترامب إلى الرئاسة، أكد أن التأشيرات المُلغاة تشمل تأشيرات طلابية وسياحية، مشددًا على أنه يوقّع شخصيًا على كل قرار إلغاء.
وفي تصريحات لاحقة أثناء عودته إلى واشنطن، أشار إلى أن الولايات المتحدة تمنح التأشيرات لأغراض الدراسة أو الزيارة، وليس لـ"النشاط الذي يعطل الجامعات"، مضيفًا: "إذا حصلت على تأشيرة ثم انخرطت في مثل هذه الأفعال، فسوف نلغيها، لأننا لا نريد ذلك في بلادنا".
تعكس هذه التصريحات موقفًا صلبًا يتماشى مع رؤية إدارة ترامب لتشديد الرقابة على النشاط السياسي للأجانب داخل الأراضي الأمريكية.
السياق: احتجاجات الجامعات والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي
تعود جذور هذا القرار إلى موجة الاحتجاجات التي اجتاحت الجامعات الأمريكية في السنوات الأخيرة، خاصة تلك التي اندلعت دعمًا للقضية الفلسطينية على خلفية تصاعد الصراع في غزة.
في ربيع 2024، شهدت جامعات كبرى مثل كولومبيا وتافتس وجورج تاون مظاهرات واعتصامات طالبت بوقف الحرب في غزة، وسحب الاستثمارات من الشركات المرتبطة بإسرائيل، والاعتراف بما وصفوه بـ"الإبادة الجماعية الفلسطينية".
هذه الاحتجاجات، التي ضمت طلابًا أجانب وأمريكيين، أثارت نقاشًا حول حرية التعبير وحق التظاهر، لكنها واجهت انتقادات حادة من الإدارة الأمريكية التي رأت فيها "معاداة للسامية" ودعمًا لحركة حماس، المصنفة كمنظمة إرهابية في الولايات المتحدة.
من الحالات البارزة، اعتقال محمود خليل، طالب الدراسات العليا في جامعة كولومبيا وحامل البطاقة الخضراء، الذي لعب دور الوسيط في مفاوضات الطلاب مع إدارة الجامعة خلال اعتصامات 2024. كما أُثيرت قضية روميسا أوزتورك بعد نشرها مقالًا في صحيفة الجامعة ينتقد موقف إدارتها من الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. هذه الأمثلة سلطت الضوء على استهداف الطلاب الأجانب الذين يعبرون عن آرائهم السياسية، مما دفع الإدارة إلى تبرير سياستها بالحاجة إلى حماية الأمن القومي والموقف الخارجي للبلاد.
الأدوات القانونية والتكنولوجية
تعتمد الولايات المتحدة في تنفيذ هذه الحملة على قانون الهجرة والجنسية، الذي يمنح وزارة الخارجية سلطة إلغاء تأشيرات الأفراد الذين يُعتبرون "معادين للسياسة الخارجية أو المصالح الأمنية" للبلاد.
كما أُشير إلى استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي لرصد حسابات الطلاب على وسائل التواصل الاجتماعي، بهدف تحديد من يُظهر دعمًا لحماس أو يشارك في أنشطة تُعتبر "معادية".
هذا النهج التكنولوجي، المعروف بـ"القبض والإلغاء"، يهدف إلى تسريع عملية رصد النشطاء واتخاذ الإجراءات ضدهم، لكنه أثار مخاوف من انتهاك الخصوصية وحقوق التعبير.
ودافعت وزارة الأمن الداخلي (DHS) عن هذه الإجراءات، مؤكدة أن المستهدفين "انخرطوا في أنشطة تدعم حماس"، دون تقديم أدلة علنية واضحة في معظم الحالات. في قضية أوزتورك، على سبيل المثال، اكتفت الوزارة باتهامها بدعم حماس دون تحديد النشاطات المحددة، مما دفع محاميتها إلى وصف الاتهامات بـ"الباطلة" والمفتقرة إلى أساس قانوني.
التداعيات القانونية والاجتماعية
أثارت هذه السياسة نقاشًا قانونيًا حادًا في الولايات المتحدة، حيث يرى منتقدون أنها تنتهك التعديل الأول للدستور، الذي يكفل حرية التعبير والتجمع السلمي لجميع الأفراد داخل البلاد، بما في ذلك غير المواطنين.
محامون مثل كاري ديسيل من معهد نايت للتعديل الأول في جامعة كولومبيا أكدوا أن "الترحيل بناءً على الخطاب السياسي غير دستوري"، مشيرين إلى أن الطلاب الأجانب يتمتعون بحقوق مماثلة للمواطنين في هذا السياق. كما حذر خبراء من أن استهداف الأفراد بناءً على آرائهم قد يمهد الطريق لتعسف السلطات مستقبلًا.
على الصعيد الاجتماعي، تسببت هذه الإجراءات في تصاعد التوتر داخل الجامعات الأمريكية، حيث نظمت مظاهرات في مدن مثل بوسطن ونيويورك احتجاجًا على اعتقال الطلاب. في تافتس، خرج نحو 2000 شخص للمطالبة بإطلاق سراح أوزتورك، مما يعكس استياءً متزايدًا من هذه السياسة.
كما أثارت القضية قلق الجاليات الطلابية الدولية، التي باتت تخشى التعبير عن آرائها خوفًا من الترحيل، مما قد يؤثر على جاذبية الولايات المتحدة كوجهة للتعليم العالي.
الانتقادات الدولية والتأثير على العلاقات الخارجية
لاقى القرار انتقادات دولية من منظمات حقوقية مثل اللجنة العربية الأمريكية لمناهضة التمييز، التي وصفت السياسة بـ"التآكل المقلق للحقوق المحمية دستوريًا". كما أثارت حالات مثل أوزتورك وخليل، اللذين نُقلا إلى مراكز احتجاز في لويزيانا، استياء دول مثل تركيا والجزائر، التي قد ترى في ذلك استهدافًا لمواطنيها بناءً على معتقداتهم السياسية. هذا التوتر قد يعقد العلاقات الدبلوماسية مع دول تدعم القضية الفلسطينية أو تنتقد السياسة الأمريكية تجاه إسرائيل.
في المقابل، يرى مؤيدو القرار، ومنهم إدارة ترامب، أنه يعزز موقف الولايات المتحدة كداعم قوي لإسرائيل، ويرسل رسالة واضحة إلى الدول والأفراد الذين يتحدون هذه السياسة. لكن هذا النهج قد يؤدي إلى نتائج عكسية، إذ يمكن أن يُنظر إليه كدليل على تراجع الولايات المتحدة عن قيمها الديمقراطية، مما يضعف صورتها العالمية.
وتواجه الإدارة الأمريكية تحديات قانونية كبيرة في تبرير هذه السياسة أمام المحاكم، خاصة مع رفع دعاوى قضائية من محامي الطلاب المعتقلين، مثل أوزتورك وخليل، الذين يطالبون بإعادتهم إلى ولاياتهم وإلغاء قرارات الترحيل.
كما أن استمرار هذه الحملة قد يؤدي إلى عزلة أكبر للطلاب الأجانب، مما يؤثر على التنوع الثقافي والأكاديمي في الجامعات الأمريكية. على الجانب الآخر، تظل الفرص متاحة للإدارة لتعديل نهجها، ربما عبر وضع معايير أكثر وضوحًا لإلغاء التأشيرات، أو التركيز على حالات تنطوي على تهديدات أمنية فعلية بدلًا من الخطاب السياسي. لكن مع تصلب موقف روبيو وترامب، يبدو أن هذه السياسة ستستمر كجزء من استراتيجية أوسع لقمع النشاط المؤيد لفلسطين.
وتعرضت الولايات المتحدة للانتقادات من قبل الحقوقيين بسبب قرارات مثل إلغاء تأشيرات أكثر من 300 ناشط مؤيد للفلسطينيين. هذا النهج، الذي يقوده روبيو، يعكس توازنًا دقيقًا بين الأمن والحريات، لكنه يثير تساؤلات عميقة حول مستقبل الحقوق المدنية في أمريكا، وقدرتها على الحفاظ على مكانتها كمنارة للديمقراطية في عالم متغير. إن التوفيق بين هذه الأولويات سيشكل اختبارًا حقيقيًا للإدارة الحالية، وربما يحدد مسار علاقاتها مع العالم لسنوات قادمة.
0 تعليق