السمعُ هو الوتر الذي تعزف عليه الحياة ألحانها، فنتعرف على العالم من خلال أصواته: همسات الريح، دندنة الأمهات، خطوات الأحبة، كلها تفاصيل قد تبدو بديهية للبعض؛ لكنها في قرية بَنِي مَعْلَا غائبة منذ أجيال.
قرية نائية في أعماق المغرب، يعيش سكانها في صمت مطبق، ليس اختيارا، بل مصيرا. فهناك، يفقد الأطفال سمعهم دون سبب واضح، هل هو مرض غامض؟ لعنة وراثة؟ أم بيئة صامتة تتآمر على حاسة السمع؟
قرية صامتة
زارت هسبريس قرية بَنِي مَعْلَا نواحي تاوريرت، حيث نسبة كبيرة من سكانها تعاني الصمم. قرية تحمل في صمتها حكاية مثقلة بالألم والتحدي، وكأن القدر اختار أن يحيطهم بعالم بلا أصوات، حيث تغيب ضوضاء الحياة، ويبقى التواصل معتمدا على العيون والإشارات، على إحساس دفين لا يحتاج إلى كلمات.
التقت هسبريس مسعود، شيخ ستيني، تحدث لنا عن حال القرية الذي لم يتغير على مر السنين: “نحن ضائعون هنا، على بُعد 73 كيلومترا من تاوريرت، تحيط بنا الجبال، لا شيء يحيط بنا، الماء بعيد، وكأننا مثل الضفادع التي جف عليها الينبوع. الصمم يجعل الحياة أصعب، وقليلون فقط من يسمعون؛ لكن لا أحد يسمع شكوانا”.
وأضاف: “أنا أصم، زوجتي لا تسمع، وخمسة من أطفالي كذلك. هذا الصمم جاءنا من عند الله، لا حيلة لنا فيه. هنا في القرية، هناك من لا يسمع، وهناك من لا يتحدث وهناك من يعاني من كليهما. في بعض البيوت تجد خمسة أو ستة أشخاص كلهم فاقدون للسمع، وكأنها لعنة حلت على آذاننا”.
وتابع: “الزمن قسى علينا، وكثيرون غادروا، تركوا منازلهم بحثا عن حياة أفضل، ولم يبق إلا من لا يملك خيار الرحيل”.
حالة هذا الشيخ لا تختلف عن أوضاع الغالبية العظمى من سكان بني معلا. فحتى الذين يولدون بنعمة السمع، لا تلبث آذانهم أن تخذلهم بمرور الأيام، وكأن الصمت يتسلل إليهم رويدا رويدا دون سابق إنذار. لا يعرفون السبب، ويجهلون السر الذي يسرق منهم أصوات الحياة.
لعنة الأجداد
التقينا يحيى، من ساكنة الدوار، الذي تحدث لنا عن كيف أصبح أصم منذ سنوات: “لقد فقدت سمعي منذ حوالي عشرين سنة، لم يحدث ذلك فجأة؛ بل كان تدريجيا، كل مرة كنت أفقد جزءا منه إلى أن أصبحت لا أسمع شيئا تماما. أسمع أصوات الناس عندما يتحدثون، لكني لا أفهم ما يقولونه، كأنها كلمات بلا معنى”.
وتابع: “المشكلة ليست لدي فقط، هناك أطفال صغار يولدون وهم يفقدون السمع تدريجيا، تماما كما حدث معنا ومع أجدادنا. كل جيل يعاني من المصير نفسه، حتى أصبح عددنا هكذا. الجميع يعاني من الصمم. لا نعرف إن كان هذا قضاء وقدرا، أم إن هناك سببا في دمنا، أم أن هناك شيئا آخر لا نعلمه”.
وأكد يحيى أن “رجال، نساء، أطفال… لا فرق، الجميع يعاني من الصمم. لا أحد يستطيع تفسير ذلك، ولا أحد يقدم لنا أي جواب. الله وحده يعلم سر ما يحدث لنا”.
تساؤلات كثيرة تظل بلا إجابة، بينما يستمر أهل القرية في العيش داخل جدران الصمت، يبحثون عن أمل قد يعيد إليهم أصوات العالم الذي يتلاشى من حولهم.
رشيد اليازيدي، أحد ساكنة الدوار، قال: “أنا ولدت هنا، وعندما بدأت أعي على الدنيا، وجدت أن الناس من حولي كلهم يعانون من الصمم، من الجدود إلى الأجيال الجديدة. هذا الأمر يتكرر مع كل جيل، وكأن هناك شيئا يجعلنا نفقد سمعنا مع مرور الوقت”.
وتابع: “البعض يقول إن السبب هو أن الناس هنا يتزوجون فيما بينهم، ولا يجلبون زوجات من خارج الدوار. آخرون يعتقدون أن المشكلة قد تكون في الماء الذي نشربه. لكن في الحقيقة، لا أحد يعرف السبب الحقيقي، هل هو وراثي، أم بسبب البيئة، أم هو مجرد قضاء وقدر”.
وأكد اليازيدي أنه “حتى الأطفال الصغار الذين يذهبون إلى المدرسة، بعضهم يكون طبيعيا؛ لكن عندما يصل إلى سن معينة، يبدأ بفقدان سمعه تدريجيا. وعندما يصبح أصما، يضطر إلى ترك المدرسة، لأنه لم يعد قادرا على متابعة الدراسة. وهكذا، نجد أن هذا الطرش يسرق من أطفالنا مستقبلهم قبل أن يبدأ”.
“أضرضار” اسم على مسمى
طرقت هسبريس باب مجموعة مدارس أضرضار اسم أمازيغي يحمل في طياته دلالة على الصمم، وكأن اللغة بدورها أدركت واقع هذه القرية قبل أن يدركه أهلها.
هناك يبدأ الأطفال حياتهم الدراسية؛ لكن توقعاتهم سرعان ما تصطدم بقدر غامض، حيث يصبح فقدان السمع مصيرا متوقعا، واقعا مألوفا يتوارثه الصغار كما لو كان إرثا ثقيلا لا فكاك منه.
يحيى يعقوبي، مدير مجموعة مدارس أضرضار التابعة للجماعة الترابية سيدي لحسن بإقليم تاوريرت، صرح لهسبريس قائلا: “ظاهرة الصمم والبكم، أو ما يطلق عليها محليا اسم أضرضار، لا تزال حاضرة في المنطقة بطرق مختلفة. في الماضي، كان لدينا تلميذ بدأ بفقدان السمع تدريجيا، ثم تطورت حالته حتى أصبح أبكم. أما خلال الموسم الدراسي 2024-2025، فلا توجد لدينا حالات مسجلة في المدرسة؛ لكننا نعاني منها بطريقة غير مباشرة، خاصة أثناء التعامل مع التلاميذ داخل وخارج الفصول الدراسية”.
وأكد يعقوبي أنه حتى عند استدعاء أولياء الأمور، يلاحظ انتشار هذه الظاهرة؛ مما يعكس البيئة التي يعيش فيها هؤلاء الأطفال.
وأضاف: “الأمر المثير للقلق هو أن الأطفال يولدون بسمع طبيعي؛ لكن مع تقدمهم في السن يبدؤون في فقدانه تدريجيا. هذا يخلق لديهم شعورا بأن مستقبلهم قد يكون مشابها لما يرونه حولهم، وكأن فقدان السمع مصير محتوم لهم في مرحلة ما من حياتهم”.
أما من ناحية التأثير على التمدرس، قال اليعقوبي: “لاحظنا أن تلاميذ المستوى السادس لا ينتقلون غالبا إلى الإعدادية؛ وإن حدث ذلك، فإن المنتقلين يكونون من الذكور فقط، وبعدد قليل جدا. السبب الرئيسي هو أن أولياء الأمور يعيشون في هذه الظروف الصعبة، ويفضلون عدم إرسال أبنائهم إلى مؤسسات تعليمية بعيدة، والتي تكون غالبا داخلية”.
أطفال صغار يتعلمون الحروف والكلمات؛ لكن أصواتها تتلاشى مع الأيام، تبتعد شيئا فشيئا حتى تغيب تماما، تاركة خلفها صمتا لا تملأه سوى نظرات تبحث عن تفسير، وأسئلة بلا أجوبة.
سكينة شكير، أستاذة التعليم الابتدائي بمجموعة مدارس أضرضار، صرحت لهسبريس قائلة: “داخل القسم، علاقتي بالتلاميذ طبيعية، ولا أواجه مشاكل كبيرة في التواصل معهم؛ لكن هناك بعض الصعوبات في متابعة الواجبات المنزلية. بعض التلاميذ لا ينجزون تمارينهم، وأعتقد أن السبب قد يعود إلى عدم وعي بعض الآباء بأهمية هذه الواجبات، وربما لأن العديد منهم يعانون من الصمم؛ مما يجعل التواصل حول الدراسة أقل فاعلية”.
وتابعت: “في حياتهم اليومية، لا يجد التلاميذ مشكلة كبيرة في التواصل مع آبائهم، لأنهم لا يعتمدون فقط على الإشارات؛ بل يستخدمون أيضا قراءة الشفاه والهمس. مثلا، عندما يقابلونني خارج المدرسة، ألاحظ أنهم يعتمدون على حركات الشفاه أكثر من الإشارات لنقل المعلومة”.
عوامل وراثية؟
طرقت هسبريس باب جمعية غد أفضل للصم بتاوريرت، التي أشرفت على زيارات متتالية للنبش عن أسباب الصمم في بني معلا.
أكد القائمون على هذه الجمعية أن هناك من يتحدث عن جينات موروثة، عن شفرة خفية تتكرر عبر الأجيال، وكأن الصمم صار جزءا من هوية الدوار، يولد الأطفال وهم يحملونه في دمائهم، كإرث لا فكاك منه.
علي لكحل، رئيس جمعية “غد أفضل” للصم بتاوريرت، قال، في حديثه مع هسبريس: “عملنا على تنظيم قافلة طبية، كما سعينا إلى توسيع نطاق البحث عبر إشراك اختصاصيين من خارج المغرب، وتحديدا من هولندا، لدراسة أسباب الصمم في المنطقة”.
وأضاف لكحل: “كنا نطمح إلى تنسيق بحث مشترك مع مؤسسة مماثلة بالجهة الشرقية؛ لكن هذا المشروع لم يتحقق بسبب صعوبات في التنفيذ. لذلك، اقتصرنا على التنسيق مع القطاع الوصي، وهو وزارة الصحة، التي أجرت تحاليل دم لسكان الدوار تحت إشراف مندوبية الصحة بتاوريرت، في محاولة للكشف عن الأسباب الكامنة وراء هذه الظاهرة”.
وتابع رئيس جمعية “غد أفضل” للصم بتاوريرت قائلا: “رغم الجهود المبذولة، فإننا لم نحصل بعد على نتائج واضحة أو مآلات دقيقة لهذه التحاليل؛ لكن التصريحات الرسمية لا تزال تؤكد أن السبب يعود إلى عوامل وراثية وجينية مرتبطة بسكان الدوار”.
على الرغم من أن بعض التفسيرات العلمية ترجع الظاهرة إلى أسباب وراثية جينية، فإن هناك من يعتقد أن الصمم في بَنِي مَعْلَا قد يكون نتيجة لعوامل أخرى، خفية بقدر ما هي مؤثرة. فهناك من يتحدث عن أن البيئة هي الفاعل الصامت في هذه المأساة، أو من يقولون إن الماء الذي يشربونه، أو الهواء الذي يتنفسونه، أو حتى نمط الحياة الذي فرض عليهم كان سببا في هذا المصير.
وقال لكحل: “هناك العديد من المعطيات التي تؤكد أن ظاهرة الصمم في دوار بني معلا ليست فقط وراثية. فالأمر لا يقتصر على السكان الأصليين؛ بل حتى على أشخاص جاؤوا من خارج الدوار واستقروا فيه، مثل الفقيه الذي كنت على تواصل معه، حيث بدأ سمعه يتناقص تدريجيا مع مرور الوقت. بل إن الأمر لا يقتصر على البشر فقط، فقد أفاد سكان الدوار بأن حتى بعض الدواب فقدت سمعها، مما يدل على وجود عامل بيئي خفي يؤثر على هذه الظاهرة”.
وأبرز الفاعل المدني ذاته: “كما أن هناك مؤشرا آخر، وهو أن العائلات التي غادرت بني معلا واستقرت في أماكن أخرى، مثل إسبانيا أو مدن مغربية أخرى، لم تسجل حالات صمم لدى أبنائها؛ مما يعزز فرضية أن فقدان السمع مرتبط بالبيئة المحلية”.
معاناة الجفاف
في بني معلا، لا تقاس المعاناة فقط بالصمت الذي يحيط بالساكنة؛ بل بضياعهم في دوامة من التجاهل والأسئلة المعلقة بلا أجوبة.
هناك، حيث فقدان السمع ليس استثناء بل قاعدة، تصبح الحياة تحديا يوميا، يصبح التواصل عبئا، والتعليم عقبة، والعمل حلما بعيد المنال.
أمام هذا الواقع القاسي، لم يجد بعض سكان بني معلا خيارا سوى الهجرة، بحثا عن حياة لا يطوقها الصمت، عن فرص قد تمنحهم أملا جديدا بعيدا عن القدر الذي حاصرهم في قريتهم.
يرحلون تاركين وراءهم ذكريات الطفولة، وجدران البيوت التي حفظت إشاراتهم، وأعينا تتساءل إن كانوا سيتمكنون يوما من سماع أصوات المدن التي يقصدونها.
التقت هسبريس رضوان زمان، أحد الشباب الذين فضّلوا الهجرة من القرية، وقال: “على مر السنين، شهدت هذه القرية العديد من التحديات التي أثرت بشكل كبير على حياة السكان، خاصة الشباب والأطفال. فبالرغم من أن العديد من الأسر خرجت من القرية بحثا عن فرص أفضل، فإن المشاكل المستمرة جعلت الحياة فيها صعبة للغاية”.
وأوضح الشاب عينه: “أحد أبرز التحديات التي نواجهها هو نقص الماء. فقد أصبح الحصول على الماء من الأمور الشاقة؛ مما يضطر الكثير من الأسر للهجرة إلى أماكن أخرى بحثا عن حياة أفضل. كما أن قلة فرص العمل جعلت الكثير من الشباب يضطرون إلى مغادرة قريتهم، إما للبحث عن عمل في المدن الكبرى أو الهجرة للخارج”.
وتابع ابن قرية بني معلا: “أما بالنسبة لي، ما دفعني إلى الخروج من تلك القرية هو الخوف من أن أفقد سمعي. هناك من بقي هناك ولم يعد يسمع، وهناك من خرج من القرية وما زال يسمع، وهناك من ولد لا يسمع”.
لا يقتصر صمت بني معلا على فقدان السمع؛ بل يمتد ليشمل معاناة أخرى أشد قسوة، تتمثل في قلة الماء والجفاف وظروف العيش القاسية.
في هذه القرية، حيث الأرض عطشى والسماء شحيحة المطر، يتحول الحصول على الماء إلى كفاح يومي، يتنقل السكان بين الآبار القليلة، ينتظرون قطرة تروي عطشهم وعطش حقولهم التي تذبل تحت شمس حارقة.
أمام هذا الواقع القاسي، لم تعد مطالب سكان بني معلا ترفا، بل ضرورة ملحة تفرضها سنوات من المعاناة.
يطالبون بحقهم في الرعاية الصحية، بفحوصات طبية تكشف حقيقة الصمم الذي يطاردهم جيلا بعد جيل، وبحلول تنموية تخرجهم من دائرة العزلة التي فرضها عليهم الفقر والجفاف. يحتاجون إلى مياه صالحة للشرب، وبنية تحتية تحترم إنسانيتهم.
" frameborder="0">
0 تعليق