في قلب الصحراء المصرية، حيث تتألق الشمس بلا انقطاع وتهب الرياح بقوة لا تفتر، تنسج مصر قصة تحولها إلى الطاقة النظيفة، والتي تضعها في صدارة ريادة الطاقة المتجددة بمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.
ووضعت الدولة المصرية استراتيجية وطنية جريئة، واستثمارات تعد بالمليارات، وشراكات دولية متينة، لتطوير عدد من مشروعات الطاقة المتجددة، تسابق بها الزمن لتحويل مواردها الطبيعية إلى محركات للتنمية المستدامة، محققة أهدافها المناخية ومعززة أمنها الطاقي.
وفي هذا التقرير من بانكير، نسلط الضوء على مسيرة مصر الملهمة في قطاع الطاقة النظيفة، للتعرف كيف تشكل المشروعات الرائدة، من بنبان إلى خليج السويس، مستقبلا أخضر يعكس رؤية وطنية طموحة وإرادة لا تلين.
رؤية استراتيجية لتحقيق الاستدامة في قطاع الطاقة

تسعى مصر إلى رفع مساهمة الطاقة المتجددة في مزيج الطاقة الكهربائية إلى 42% بحلول عام 2035، وهو هدف طموح يتماشى مع رؤية مصر 2030 واستراتيجية التنمية المستدامة، ووفقاً لأحدث بيانات هيئة الطاقة الجديدة والمتجددة (NREA)، بلغت القدرة المركبة للطاقة المتجددة حوالي 6.1 جيجاواط بنهاية عام 2022، تشمل 2.83 جيجاوات من الطاقة المائية، 1.34 جيجاوات من الطاقة الشمسية والرياح (حكومية)، و56 ميجاواط من الوقود الحيوي.
وتخطط الحكومة المصرية في الوقت الحالي إلى إضافة 4 جيجاواط إضافية بحلول عام 2026، ليصل الإجمالي إلى 10.1 جيجاوات، في خطوة تعزز مكانة مصر كمركز إقليمي للطاقة النظيفة.
حلم الطاقة النظيفة.. مشروعات قومية رائدة

نتطرق في هذا المحور لعدد من أهم مشروعات الطاقة المتجددة التي دشنتها الدولة لتعزيز الطاقة في مصر ومنها:
مجمع بنبان للطاقة الشمسية
يتربع مجمع بنبان بمحافظة أسوان على عرش مشروعات الطاقة الشمسية عالميا، حيث حاز على جائزة البنك الدولي كأفضل مشروع في 2019، يضم المجمع 32 محطة بقدرة حالية تبلغ 1.465 جيجاواط، مع توقعات بالوصول إلى 2 جيجاوات عند اكتماله.
في العام المالي 2022-2023، ساهم المجمع في خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بمقدار 1.9 مليون طن سنوياً، مما يعكس دوره الحيوي في دعم الأهداف البيئية الوطنية.
مزارع رياح خليج السويس والزعفرانة
تعد منطقتا خليج السويس والزعفرانة من أكثر المناطق جذباً لمشروعات طاقة الرياح، بفضل سرعات الرياح العالية التي تصل إلى 10 أمتار في الثانية، وتبلغ القدرة المركبة الحالية لهذه المزارع أكثر من 1.1 جيجاواط، تشمل محطة رياح خليج السويس (250 ميجاوات)، التي بدأت التشغيل التجاري في 2021.
وتتطلع مصر إلى إضافة أكثر من 3 جيجاوات إضافية في خليج السويس، مدعومة بتخصيص 845.7 كم² لمشروعات جديدة، مما يعزز مكانتها كوجهة استثمارية رائدة.
الطاقة الحيوية.. خطوات واعدة لتعزيز الاقتصاد
شهد قطاع الطاقة الحيوية نموا ملحوظا، حيث ارتفعت القدرة المركبة إلى 56 ميجاوات في 2022، محققة زيادة بنحو خمسة أضعاف مقارنة بالأعوام السابقة، وتعتمد هذه المشروعات على المخلفات الزراعية والحيوانية، مما يسهم في تعزيز الاستدامة ودعم الاقتصاد الدائري.
برنامج نوفي: مستقبل الطاقة النظيفة
يعد برنامج "نوفي" الوطني ركيزة أساسية في استراتيجية مصر للطاقة، حيث يستهدف إنشاء مشروعات بقدرة 10 جيجاوات لتحل محل محطات حرارية تقليدية بقدرة 5 جيجاوات، ويهدف البرنامج إلى تقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، خفض التكاليف التشغيلية، وتعزيز كفاءة الشبكة الكهربائية الوطنية.
الشراكات الدولية والقطاع الخاص.. محركات النجاح

يشكل القطاع الخاص عمودا فقريا في نهضة الطاقة المتجددة المصرية، حيث يسهم حاليا بنحو 34.4% من إجمالي القدرة المتجددة، أي ما يعادل 2.1 جيجاوات.
وتقود شركات عالمية مثل "سكاتك" النرويجية و"مصدر" الإماراتية، مشروعات طموحة، بما في ذلك اتفاقية "سكاتك" لإنشاء محطة شمسية بقدرة 1.1 جيجاوات بالتعاون مع شركة مصر للألمنيوم.
كما وقّعت شركة "إنفنيتي" المصرية مذكرات تفاهم لتطوير مشروعات بقدرة تتجاوز 2 جيجاواط، وتدعم الحكومة هذه الجهود بحوافز استثمارية تصل إلى 50% من التكاليف الرأسمالية، إلى جانب تمويلات ميسرة بقيمة 4.5 مليار دولار منذ 2022 لإضافة 4.7 جيجاوات ضمن برنامج "نوفي".
وتعزز الشراكات مع مؤسسات دولية، مثل الاتحاد الأوروبي وبنوك التنمية، البنية التحتية للطاقة النظيفة، مما يرسخ مكانة مصر كمركز للابتكار والاستثمار في المنطقة.
إنجازات ملموسة وتأثير بيئي
في عام 2022، أنتجت مشروعات الطاقة المتجددة حوالي 25.6 جيجاوات/ساعة من الكهرباء، بنمو 6.7% مقارنة بعام 2021، مما عزز استقرار الشبكة الوطنية وخفّض الاعتماد على الوقود الأحفوري.
كما ساهمت هذه المشروعات في خفض انبعاثات ثاني أكسيد الكربون بمقدار 1.9 مليون طن خلال العام المالي 2022-2023، وفقاً لبيانات هيئة الطاقة الجديدة، في خطوة تؤكد التزام مصر بالاتفاقيات الدولية للمناخ.
تحديات في مواجهة مشروعات الطاقة المتجددة في مصر

على الرغم من الإنجازات المذهلة، يواجه القطاع تحديات لا يستهان بها، ففائض الطاقة الكهربائية، الذي يبلغ حوالي 60 جيجاوات في مقابل ذروة طلب عند 30 جيجاوات، يشكل ضغطا على الشبكة الوطنية.
وأشار تقرير الوكالة الدولية للطاقة لعام 2022 إلى تأخيرات في نظام المناقصات التنافسية، مما أثر على سرعة تنفيذ بعض المشروعات، ومع ذلك، تظهر خطط الحكومة لتصدير الفائض الكهربائي عبر مشروعات مثل الربط الكهربائي مع السعودية (3 جيجاوات) وتطوير مشروعات جديدة، مثل "رياح خماسين"، التزاماً قوياً بتجاوز هذه العقبات.
في النهاية مما لا شك فيه الأن، أن مصر اليوم تعد نموذجا إقليميا في التحول نحو الطاقة النظيفة، حيث تتجاوز استثماراتها في هذا القطاع 160 مليار دولار متوقعة بحلول 2029.
ومن خلال مبادرات مثل "نوفي" ومجمع بنبان، تُثبت البلاد قدرتها على قيادة ثورة خضراء تُعيد تشكيل المشهد الطاقي في المنطقة، ومع خطط لتصدير الكهرباء إلى الأسواق الإقليمية، عبر مشروعات مثل الربط الكهربائي مع أوروبا والسعودية، تتطلع مصر إلى أن تكون مركزاً عالمياً للطاقة المستدامة.
0 تعليق