تحديد المراد بالمصطلحات تحديداً دقيقاً يمنع كثيراً من سوء الفهم والخلاف والجدل، ومصطلح «التصوف» مصطلح كثر استخدامُه فى غيرِ ما وُضِعَ له، فحصل كثير من سوء الفهم والجدل، فالتصوف والمتصوف والصوفى كلُّها مصطلحات إسلاميّة نشأت فى البيئة الإسلامية إِبّانَ عصر التدوين حين نشأت مصطلحات الفقه والكلام وغيرها، وهذه المصطلحات أطلقت على علوم دُوّنت لتصون مقامات الدين الثلاثة الإسلام وهو شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت لمن استطاع إليه سبيلاً.
والإيمان وهو أن يؤمن المرء باللهِ وملائكتِهِ وكتبِهِ ورسلِهِ واليومِ الآخرِ، وتؤمنَ بالقدَرِ خيرِهِ وشرِّهِ، والإحسان وهو أن يعبدَ المرءُ اللهَ تعالى كأنه يراه، فإن لم يكن يراه فليعلم أنه سبحانه يراه.والمتأمل فى هذه المقامات سيجد أن الإسلامَ هو مقامُ معرفة أمر الله فى ما يتصل بالجوارح والظواهر، والإيمانَ وهو مقامُ معرفة أمر الله فى ما يتصل بالقلوب والبواطن، والإحسانَ وهو مقامُ المعرفة بالله سبحانه وتعالى، وهو ثمرةُ المعرفتين السابقتين.
وقد نهض علماء الأمة بحفظ هذه المقامات، فقام الأئمة الأربعة وغيرهم من المجتهدين والفقهاء بحفظ مقام الإسلام وأعمال الجوارح عن طريق علم الفقه والاجتهاد فى بيان، وكشف قواعده ومسائله، ونهض الإمامان الأشعرى والماتُريدى وغيرُهما بحفظ مقام الإيمان مما شابه من ضلال عن طريق علم أصول الدين فوضّحوا أصوله وفروعه، وكذلك نهض بعض علماء الأمة بحفظ مقام الإحسان مما ظهر فى الأمة من مظاهرَ تُناقضُ ما كان عليه النبى، صلى الله عليه وسلم، وصحابته، رضوان لله عليهم أجمعين، فبيّنوا حقائقه، وكشفوا دقائقه، ورسموا السبيل إليه، يقول صاحب الرسالة القشيرية: «اعلموا -رحمكم الله تعالى- أنّ المسلمين بعدَ رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لم يتسمّ أفاضلُهم فى عصرهم بتسمية عَلَمٍ سوى صحبةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لا فضيلة فوقها، فقيل لهم: الصحابة.
ولمَّا أدركهم أهلُ العصرِ الثانى سُمّى من صحب الصحابة: التابعين، ورأوا فى ذلك أشرفَ سِمةٍ. ثم قيل لمن بعدهم: أتباعُ التابعين. ثم اختلف الناس، وتباينت المراتب، فقيل لخواصّ الناس ممَّن لهم شدةُ عناية بأمرِ الدينِ: الزّهادُ والعُبّادُ. ثم ظهرت البدعُ، وحصل التداعى بين الفرق، فكل فريق ادَّعَوا أنّ فيهم زهاداً، فانفرد خواص أهل السُّنة المراعون أنفسَهُم مع الله تعالى الحافظون قلوبَهُم عن طوارق الغفلة باسم التصوف. واشتُهر هذا الاسمُ لهؤلاء الأكابر قبل المائتين من الهجرة».
فإذا كان التصوف من الإسلام فى حقيقتِه ومصطلحه كان من الخطأ إطلاق هذا المصطلح -الإسلامى معنى ولفظاً- على التجارب والمذاهب الروحية وما شابهها عند غير المسلمين، فهذا خطأ محض لا يُقرُّه العلم، فَضْلاً عن الخُلُق والدِّين، فترجمة تلك المذاهب والمفاهيم بالتصوف فيها إساءة لمصطلح إسلامى أصيل، وإساءة للإسلام، وإساءة للمنهج العلمى السديد.ومثل هذه الإساءات حاصلة وواقعة أيضاً عند إطلاقِ هذا المصطلح على أهل الجهل والبدع والأهواء، وطريقة الاصطلاح العلمى تقضى بإطلاق اصطلاحات أخرى كالتمصوف والمتمصوف والاستصواف والمستصوف وغير ذلك، للتمييز بين الأصفياء والأدعياء، والأصلاء والدخلاء.
ووجود أولئك وتنسبهم إلى أهل التصوف لا يقدح فى أصل تلك الحقيقة العلية الشريفة، وهم يماثلون من ادّعى الفقه من غير أهله، أو من ابتغى به غير وجه الله، ومن أدخل -بقصد أو بغير قصد- فى العقيدة ما ليس منها، فكما أن وجود أولئك لا يقدح بصورة من الصور فى علم الفقه من حيث هو ولا فى الفقهاء الأصلاء، ولا يقدح فى علم أصول الدين من حيث هو ولا فى أهله الأصلاء، كذلك الشأن هنا، فوجود الدخلاء والأدعياء لا ينفى ولا يؤثر فى وجود الأصلاء والأصفياء.
0 تعليق