تُعد واحات المغرب المنتشرة في مناطق ما قبل الصحراء، مثل تافيلالت، درعة، وفجيج، كنزا بيئيا وتراثا حضاريا يعكس تفرد المملكة في التكيف مع البيئات القاحلة. هذه الواحات، التي تعتمد على أنظمة ري تقليدية، مثل “الخطارات” والسواقي، تواجه اليوم تهديدات غير مسبوقة بسبب التغيرات المناخية، تتجلى في ارتفاع درجات الحرارة، وندرة التساقطات، والجفاف المتكرر، إلى جانب الحرائق والتصحر.
ففي الفترة بين 2009 و2024 التهمت الحرائق حوالي 172 ألف نخلة، وتقلصت مساحات الواحات بشكل ملحوظ بسبب الاستنزاف المائي والضغط البشري، ما يهدد الاقتصاد المحلي والسياحة البيئية التي تعتمد عليها المجتمعات المحلية.
ويرى خبراء أن حماية هذه المناطق الحيوية تتطلب مقاربة شاملة تجمع بين الإدارة المستدامة للموارد، وإشراك السكان المحليين، واستخدام التكنولوجيا الحديثة؛ فالواحات، حسبهم، ليست مجرد مساحات زراعية، بل هي نظم إيكولوجية وثقافية تدعم التنوع البيولوجي وتوفر مورد رزق للسكان.
واعتبر أيوب كرير، الخبير في المناخ والتنمية المستدامة ورئيس جمعية “أوكسيجين للبيئة والصحة”، أن الواحات المغربية تمثل تراثًا حضاريًا وكنزًا بيئيًا يدعم الاقتصاد المحلي في المناطق شبه الصحراوية، خاصة في الجنوب الشرقي، ويُسهم في تعزيز السياحة البيئية؛ قبل أن يعود لينبّه إلى أن هذه المناطق تُعاني من تدهور سريع بسبب التغيرات المناخية، مثل ارتفاع درجات الحرارة، التلوث، والتقلبات المناخية، إلى جانب الإهمال البشري.
وأُشار كرير ضمن تصريح لهسبريس إلى أن العديد من الواحات التي كانت مزدهرة تاريخيًا تحولت إلى أراضٍ قاحلة نتيجة الجفاف والتصحر والحرائق، ما يُهدد النخيل المحلي الأصيل ويُؤثر على سبل عيش السكان، إذ أصبحت الهجرة خيارًا اضطراريًا للكثيرين بسبب فقدان مصادر الرزق، مبرزاً أن الحرائق المتكررة، التي تُدمر آلاف الهكتارات سنويًا، تُفاقم الأزمة، حيث تُهلك أنواعًا متميزة من النخيل وتُقوض الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالسياحة الإيكولوجية والزراعة المعيشية.
وأكد المتحدث ذاته أن المجهودات الحكومية رغم أهميتها تبقى غير كافية أمام وتيرة التدهور، مشددًا على دور الوكالة الوطنية لتطوير مناطق الواحات وشجر الأركان في التثمين والحماية؛ لكنه يتساءل عما إذا كانت هذه الجهود تلبي التحديات الراهنة، لافتا إلى أهمية التعاونيات والجمعيات في التوعية وتسويق المنتجات المحلية، التي تُعد علامة جودة تعكس هوية الواحات.
وشدد الخبير البيئي ذاته على ضرورة إعادة الاعتبار للواحات من خلال برامج طويلة الأمد لإعادة التشجير وتجديد النباتات المحلية، مع التركيز على غرس أعداد كبيرة من الأشجار بشكل دوري، وليس فقط في المناسبات العالمية، داعياً إلى استلهام تجارب دول تزرع ملايين الأشجار سنويًا، ومقترحا إنشاء واحات جديدة إلى جانب إنقاذ المتدهورة، بالتعاون مع السكان المحليين، السلطات، والمنظمات الدولية؛ كما أكد على أهمية تثمين أنظمة “الخطارات” التقليدية كمورد عالمي لإدارة المياه، وتطويرها لتخزين المياه في فترات الجفاف، مع تعزيز السياحة الإيكولوجية بشرط مشاركة السكان لضمان نجاح المشاريع.
وخلص الخبير في المناخ والتنمية المستدامة ورئيس جمعية “أوكسيجين للبيئة والصحة” إلى الدعوة إلى مراقبة صارمة للسلوكات البشرية المدمرة، مثل قطع الأشجار والتسبب في الحرائق، مقترحًا استخدام تكنولوجيات الاستشعار عن بُعد والذكاء الاصطناعي لرصد الواحات وحمايتها عبر الأقمار الصناعية، دون إغفال دور الشباب في دعم التعاونيات والمساهمة في الحفاظ على الواحات، وموردا أن السكان المحليين هم “صمام الأمان” للواحات، وأن نجاح أي مشروع يعتمد على شراكتهم الفعالة مع الدولة والجمعيات.
من جانبه أكد مصطفى بنرامل، رئيس جمعية المنارات الإيكولوجية من أجل التنمية والمناخ، أن حماية الواحات المغربية باتت ضرورة ملحة تتطلب مقاربة شاملة تجمع بين الإدارة المستدامة للموارد المائية والحفاظ على التنوع البيولوجي، مقترحاً ترشيد استخدام المياه عبر تقنيات الري الحديثة، مثل الري بالتنقيط، وإعادة استخدام المياه المعالجة في أنشطة غير غذائية، إلى جانب مراقبة الضخ لمنع استنزاف المياه الجوفية.
ودعا بنرامل في حديث لهسبريس إلى إنشاء أنظمة لتجميع مياه الأمطار وتشجيع زراعة أصناف محلية مقاومة للجفاف، لضمان استدامة الموارد المائية في ظل ندرة التساقطات وتفاقم الجفاف الناتج عن التغيرات المناخية، مبرزاً في هذا السياق أهمية الحفاظ على النظم الإيكولوجية من خلال حماية الغطاء النباتي المحلي، الذي يُقلل التبخر ويحمي التربة، وتنفيذ مشاريع لتثبيت الكثبان الرملية وتشجير المناطق المتدهورة.
كما أكد المتحدث على ضرورة إنشاء مناطق محمية لحماية الأنواع المهددة، مع تطوير سياحة بيئية مستدامة تُفيد السكان دون الإضرار بالبيئة، مشيراً إلى أن هذه الإجراءات تُسهم في مكافحة التصحر، الذي يُهدد الواحات بزحف الرمال وفقدان التربة الخصبة، ما يتطلب تدخلات عاجلة للحفاظ على التوازن البيئي.
وشدد الفاعل البيئي ذاته على أهمية التكيف مع التغيرات المناخية من خلال تدريب المزارعين على ممارسات زراعية مستدامة، وتنويع مصادر الدخل عبر دعم الصناعات الحرفية والسياحة لتقليل الاعتماد على الزراعة؛ فضلا عن تحسين البنية التحتية لتحمل الظواهر المناخية القصوى، وإنشاء أنظمة إنذار مبكر لرصد التغيرات المناخية، وإنشاء بنوك بذور محلية، ودعم التعاونيات لتسويق المنتجات، وترميم “الخطارات” لزيادة كفاءتها، موردا أن هذه الخطوات تُعزز قدرة الواحات على الصمود في وجه التحديات المناخية.
وختم رئيس جمعية المنارات الإيكولوجية من أجل التنمية والمناخ بالتأكيد على دور الحوكمة والمشاركة المجتمعية، داعيًا إلى إشراك السكان في صنع القرارات وتعزيز التعاون بين الحكومة، المنظمات غير الحكومية، والقطاع الخاص، وسن قوانين لحماية الواحات، مثل قانون خاص بالواحات، وتنظيم حملات توعية لزيادة الوعي بأهميتها.
0 تعليق