كان يوم 28 أبريل/نيسان 2025 يومًا استثنائيًا، إذ عمّ الظلام بانقطاع الكهرباء في إسبانيا على وجه الخصوص، وأجزاء واسعة من البرتغال، ما تسبَّب بحالة من الشلل في البلاد، تَضرَّر منها ملايين السكان ، وأثّر بجميع القطاعات دون استثناء.
واضطرت الحكومة إلى إعلان حالة الطوارئ واتخاذ تدابير فورية للتخفيف من حدّة الحادث غير المسبوق، إذ يُعدّ هذا الانقطاع، بهذا الحجم، الأول من نوعه في البلاد.
حظي انقطاع الكهرباء في إسبانيا باهتمام واسع من مختلف دول العالم، وخاصة من الدول الأوروبية، نظرًا لأن العطل وقع في أعضاء بالرزين ضمن المنظومة الكهربائية الأوروبية (ENTSO-E).
وستظل حادثة انقطاع الكهرباء في إسبانيا محفورة في ذاكرة كل مشغّلي منظومة الطاقة، نظرًا لكونها حادثة مفاجئة تسببت في خسائر فادحة خلال ساعات قليلة فقط.
إنتاج الكهرباء في إسبانيا
تُعدّ منظومة إنتاج الكهرباء في إسبانيا من بين أفضل النماذج من حيث تنوُّع مصادر الطاقة ودمج الطاقة المتجددة، إذ يشمل مصادر تقليدية ومتجددة وأخرى بديلة، كما تُمثل المصادر الأقل انبعاثًا للغازات نحو 76.8% من إجمالي الإنتاج.
وتهيمن الطاقات المتجددة بنسبة 57.1%، وهي نسبة كبيرة تعكس حجم الجهود المبذولة من طرف الدولة لتحقيق هذا الإنجاز، ويمكن القول، إن إسبانيا تسير بخطى ثابتة نحو انتقال طاقي سريع وفعّال.
الرسم البياني التالي يكشف مزيج توليد الكهرباء في إسبانيا (2023- 2024):
خصائص الطلب والإنتاج اليومي للكهرباء
من خلال دراسة المنحنى البياني اليومي للكهرباء في شهر أبريل/نيسان، يمكن عَدّ منحنى الإنتاج ليوم 4 أبريل/نيسان 2024 نموذجًا متوسطًا لتغير الطلب والإنتاج اليومي في إسبانيا.
ووفقًا للرسومات البيانية المعتمدة، نلحظ وجود 3 منحنيات:
- • منحنى تغير الطلب اللحظي.
- • منحنى تغير الطلب المبرمج.
- • منحنى توقّع الطلب لليوم المعني.
وعمومًا، يُعدّ منحنى توقُّع الطلب من بين المؤشرات الأساسية التي يدرسها مشغّلو منظومة الطاقة قبل يوم من التنفيذ، إذ يأخذون بالحسبان مختلف العوامل المؤثرة في الطلب، مثل العوامل الاقتصادية، والسياسية، والمناخية، وغيرها.
وبناءً على المعطيات، يُرسَم منحنى تقريبي لطلب اليوم التالي، ومن خلاله تُجهَّز المحطات المعنيّة، كما تُحدَّد كميات الكهرباء التي ستُصَدَّر أو ستستَورَد من الدول المجاورة.
ورغم أن المنحنى يبقى تقريبًا، فإن تطوُّر أجهزة التنبؤ وخبرة القائمين على المنظومة جعلا توقُّع الطلب أكثر دقة، وهو ما يفسّر تقارب المنحنيات الثلاثة عادةً في الرسومات البيانية.
وبالرجوع إلى منحنى الإنتاج اليومي للكهرباء، يُلحَظ وجود ذروتين في اليوم، ذروة صباحية ما بين الساعة 07:00 و08:00 صباحًا، وذروة مسائية عند الساعة 21:30 ليلًا.
وتعكس الذروة الأولى بداية تشغيل المصانع والمعامل، بينما تعبّر الذروة الثانية عن العودة الجماعية إلى المنازل، واستعمال الأجهزة الكهربائية بكثافة، بالإضافة إلى زيادة استهلاك الإنارة المنزلية والعمومية، و قد يختلف توقيت هاتين الذروتين حسب الفصول.
ويُلحَظ في منحنى الإنتاج التفصيلي التنوع الكبير في مصادر الطاقة، وكذلك تغير نِسب الإنتاج خلال 24 ساعة، فوفقًا للمنحنى، تتزايد قدرة إنتاج طاقة الرياح خلال الليل، وتتراجع خلال النهار.

أمّا الطاقة الشمسية، فتنعدم قدرتها الإنتاجية ليلًا، وتبدأ في النشاط نهارًا، من الساعة 08:00 صباحًا إلى الساعة 09:00 مساءً، إذ تهيمن خلال هذه المدة على خليط الإنتاج، ويُعطي مشغّلو منظومة الكهرباء دائمًا الأولوية للطاقات المتجددة، نظرًا لتكلفتها المنخفضة مقارنةً بمصادر الطاقة التقليدية، بالإضافة إلى كونها أقل انبعاثًا لغاز ثاني أكسيد الكربون، مما يسهم في تقليل الأثر البيئي.
ولضمان التوازن المستمر بين الطلب والإنتاج، يعمل مشغّلو المنظومة الكهربائية على تسخير جميع الإمكانات المتوفرة من مصادر الإنتاج، كما يضعون في الحسبان مختلف السيناريوهات لمواجهة أيّ طارئ غير متوقع.
ولهذا الغرض، تُجهَّز جميع الخيارات الممكنة من الاحتياطيات، سواء "الساخنة" أو "الباردة"، بالإضافة إلى الاتفاقيات المسبقة مع الدول المرتبطة بخطوط الربط الكهربائي لتحديد كميات القدرات المتبادلة.
أمّا العنصر المحوري الذي يراقبه مشغّلو المنظومة باستمرار للحفاظ على التوازن فهو تردّد الشبكة، الذي يجب أن يبقى ضمن المجال المحدد، ويختلف التردد حسب المناطق، إذ يكون 50 هرتز، أو 60 هرتز، أمّا في أوروبا فالمُعتمد هو 50 هرتز.
علاوةً على ذلك، يُعِدّ كل مشغّلي المنظومة الكهربائية برنامج دفاع خاص يُفعَّل تلقائيًا عند وقوع حادث طارئ، سواء كان عزلًا جزئيًا أو كليًا، من خلال فتح الفواصل في بعض المحطات، بدءًا من المحطات ذات الجهد المنخفض، وإن استدعت الحاجة، يجري الانتقال إلى المحطات ذات الجهد المتوسط، ثم العالي خيارًا أخيرًا، وتُفعّل هذه الأنظمة تلقائيًا.
ويبقي التحكم اليدوي محدودًا، ويقتصر على بعض المحطات التقليدية التي تتوفر على تجهيزات التحكم عن بُعد، وهي قليلة العدد.
ولضمان تنفيذ المنهجية بفعالية، توجد أنظمة حماية مبرمجة في محطات التوزيع والنقل، ومحطات الإنتاج، تهدف إلى عزل أيّ منطقة أو جهة معرّضة للخطر قبل فوات الأوان، علمًا أن الحوادث في الشبكة يمكن أن تحدث بسرعة كبيرة، وإذا لم تتدخل الأنظمة والبرمجيات في الوقت المناسب، يصبح من الصعب السيطرة على الوضع، مما قد يؤدي إلى خروج تدريجي وسريع للشبكة من الخدمة.
التبادل الكهربائي بين إسبانيا والدول المجاورة
تتعامل منظومة الكهرباء في إسبانيا مع 3 دول مجاورة، هي: فرنسا، والبرتغال، والمغرب، لوجود خطوط ربط كهربائي تربطها بهذه الدول، مما يسمح بتبادل الكهرباء، إمّا بتصدير الفائض، أو استيراد العجز، ويأخذ بالحسبان أيضًا التكلفة في التبادل، وفقًا للعقود المتفق عليها بين الأطراف.
وعمومًا، تتفق الدول على كمية محددة يُسمح بتبادلها، وغالبًا لا يجري تجاوزها، وتنظّم الفواصل الكهربائية في محطات الربط هذا التبادل ،أمّا في حالة حدوث خلل في إحدى الشبكات، فإن هذه الفواصل تُفتح تلقائيًا لعزل المنطقة المتأثرة، إمّا بفعل أحد عناصر الحماية الكهربائية، أو في معظم الأحيان بسبب عنصر حماية التردد.
تفاصيل التبادل الكهربائي ليوم انقطاع الكهرباء في إسبانيا:
التبادل مع البرتغال
عرفت التبادلات مع البرتغال نسقًا عاديًا منذ منتصف يوم 28 أبريل/نيسان 2025، إذ كانت تجري بانتظام، سواء عبر الاستيراد أو التصدير حسب الحاجة، غير أنه عند وقوع العطل، توقفت هذه التبادلات، واستُؤنِف التبادل عند الساعة 07:10 مساءً، لكن بوتيرة ضعيفة وغير منتظمة، نظرًا لأن البرتغال نفسها كانت تعاني من انهيار في شبكتها الكهربائية، وكانت تعمل على إعادة تنشيطها.
التبادل مع فرنسا
منذ منتصف ليل 28 أبريل/نيسان 2025 وحتى لحظة الحادث، كان التبادل مع فرنسا يسير بشكل عادي، وكانت إسبانيا في وضع تصدير، وصلت في بعض الأوقات إلى 2800 ميغاواط.
وعند وقوع العطب، توقَّف التبادل بعد فتح فواصل الربط، ثم استُؤنِف الساعة 05:10 مساءً بوتيرة مستمرة، إذ انتقلت إسبانيا إلى وضع استيراد، وبلغت القدرة المستوردة في بعض الأوقات 2000 ميغاواط.
التبادل مع المغرب
كان التبادل يسير أيضًا طبيعيًا، بقدرات متفاوتة، منذ منتصف الليل حتى وقوع العطب، إذ بلغت الصادرات الإسبانية نحو المغرب ما يصل إلى 800 ميغاواط في بعض اللحظات، واستُؤنف التبادل على الساعة 06:30 بوتيرة متفاوتة، وبلغت القدرة المستوردة من المغرب 700 ميغاواط في بعض الأوقات.
ويمكن القول، إن التبادل الكهربائي مع الدول المجاورة أدى دورًا حاسمًا في إعادة تنشيط الشبكة الكهربائية الإسبانية، وأسهم بشكل كبير في تسريع وتيرة استعادة الخدمة وإعادة التيار الكهربائي إلى عدد من المناطق في البلاد.

انقطاع الكهرباء في إسبانيا جزئيًا
بالعودة إلى ما حدث يوم 28 أبريل/نيسان 2025 عند الساعة 12:33، سُجِّل فقدان مفاجئ لقدرة إنتاجية تُقدّر بـ15 غيغاواط في غضون ثوانٍ، مما تسبَّب في عجز كبير وفوري في الإنتاج .
وتفاقم الوضع سوءًا عند فتح فواصل الربط الكهربائي مع الدول المجاورة، مما أدى إلى عزل شبه الجزيرة الإيبيرية عن باقي الشبكة الأوروبية.
قبل الحادث، كانت القدرة الإنتاجية تفوق الطلب، وبلغت القدرة الشمسية وحدها 18 غيغاواط، وهي نسبة عالية، تعكس إسهامًا كبيرًا للطاقة الشمسية في خليط الإنتاج.
تُعرَف هذه الظاهرة في قطاع الطاقة بـ "الانقطاع الجزئي أو الكلي للكهرباء (Blackout) "، وهي حالة تنتج عن اختلال كبير بين الإنتاج والطلب، وعندما تعجز منظومة الكهرباء عن احتواء الخلل، يُفعّل هذا السيناريو الأسوأ.
وتؤدي هذه الحالات إلى عواقب وخيمة على القطاعات الحيوية، وقد تُسبِّب خسائر بمليارات الدولارات خلال ساعات فقط، وتزداد الخسائر كلّما طال أمد الانقطاع.
وقد كان انقطاع الكهرباء في إسبانيا جزئيًا، ووقع في تمام الساعة 12:33، إذ شهدت عدّة مناطق انقطاعًا كليًا، وسُجّلت تفاصيل الحادث كما يلي:
- 12:33.16 خروج جزء من المولدات في الجنوب الغربي لإسبانيا، دون تحديد القدرة الضائعة.
- 12:33.18 خروج إضافي من المولدات في المنطقة نفسها، أيضًا دون تحديد دقيق للقدرة المفقودة.
- 12:33.19 عزل شبه الجزيرة الإيبيرية عن الشبكة الأوروبية بسبب فتح الفواصل مع فرنسا.
- 12:33.20 فقدان 15 غيغاواط من الإنتاج وانقطاع جزئي للكهرباء.
وتسبَّب الحادث بانقطاع جزئي للكهرباء في كل من إسبانيا، والبرتغال، وجزء من جنوب فرنسا.
ووفقًا لموقع "إنرجي شارتس" (Energy Charts) التابع لمعهد فراونهوفر الألماني، فقد سُجِّل اهتزاز في التردد عند الساعة 12:20 في مدينة مالقة الإسبانية، ويُرجّح أن يكون لذلك ارتباط بالحالة التي أدت إلى الانقطاع لاحقًا.
وقد تأثَّر تردُّد الشبكة الألمانية أيضًا في أثناء الحادث (12:33)، إذ انخفض إلى 49.85 هرتز، نظرًا لكون الشبكة الكهربائية الأوروبية مترابطة.
عند وقوع تسلسل أحداث مثل هذا، تصبح عملية إعادة تنشيط الشبكة الكهربائية معقّدة للغاية، خصوصًا مع فقدان التزامن بين بعض محطات الإنتاج والشبكة العامة.
ومن المهم الإشارة إلى أن جميع أنظمة الاستجابة تعمل تلقائيًا، في حين إن تدخُّل الإنسان يكون محدودًا للغاية.
وتتطلب مرحلة إعادة التنشيط تنسيقًا عاليًا بين مختلف الجهات، وهي:
- مشغّلو المنظومة الكهربائية.
- مشغّلو محطات الإنتاج.
- مشغّلو محطات النقل والتوزيع.
وهذا بالضبط ما حدث مع مشغّلي شبكة الكهرباء الإسبانية (RED ELÉCTRICA DE ESPAÑA)، الذين بذلوا جهودًا مكثفة لإعادة تنشيط الشبكة، خاصة فيما يتعلق بإعادة تشغيل المحطات التي خرجت من الخدمة، وضمان تزامنها مع الشبكة العامة.
ويكمن التحدي الأساس في تحقيق التزامن، إذ لا يمكن لأيّ مولد كهربائي أن يتزامن مع الشبكة ما لم تتحقق شروط التزامن الأساسية، ومنها:
- توفُّر التوتر اللازم في محطات النقل المتصلة بوحدات التوليد.
- توافق التردد والجهد وطور الإشارة بين المولد والشبكة.
ويعمل مشغّلو المنظومة على إعادة الجهد الكهربائي تدريجيًا إلى محطات النقل، مما يسمح للمولدات باستعادة التزامن والاندماج مجددًا في الشبكة.
وبدأت القدرة الإنتاجية في الارتفاع من جديد، وكانت المصادر الرئيسة التي أسهمت في تسريع عملية التنشيط هي محطات الدورة المركبة الغازية والمحطات الكهرومائية، بفضل قدرتها العالية على بدء التشغيل السريع خلال وقت قصير.
وأُعيدَ بنجاح غلق فواصل الربط مع فرنسا في الساعة 05:10 مساءً، ومع المغرب في 06:30 مساءً، مما أسهم في استعادة جزء كبير من استقرار الشبكة.
حلول مقترحة لتجنُّب الانقطاع الجزئي أو الشامل للكهرباء
لا يمكن توجيه اللوم لمشغّلي شبكة الكهرباء في إسبانيا، نظرًا لأن ما حدث يُعدّ حادثًا غير مسبوق، وأسبابه قد تتطلب وقتًا طويلًا لتحليل كل البيانات، سواء على المستوى الوطني أو الأوروبي.
ومن الأفضل أن يُترك هذا الأمر للمتخصصين في الشبكة الإسبانية، فكل التكهنات التي جرى تداولها أو نشرها في وسائل الإعلام قد تكون صحيحة جزئيًا أو مغلوطة في ظل غياب المعطيات الدقيقة، فحادثة تقنية من هذا النوع تتطلب تحليلًا وتشخيصًا معمقًا للوصول إلى نتائج دقيقة وموثوقة.
وفي هذا السياق، لن نتحدث عن الأسباب المباشرة، لأننا لا نملك المعطيات الكافية، لكن من خلال البيانات المتاحة، خصوصًا عبر موقع RED ELÉCTRICA DE ESPAÑA، وهو المصدر الأدقّ في تتبُّع الحادثة، ومن خلال دراسة مصادر الإنتاج ومنحنيات الطلب اليومية، يمكن استخلاص التوصيات التالية:
ضعف المرونة التشغيلية للطاقة المتجددة
مع هيمنة الطاقة المتجددة بنسبة 57.1%، وخاصة الطاقة الشمسية التي تصل إلى ذروتها منتصف النهار، وتصبح المصدر الأكبر في بعض الأوقات، يضطر مشغّلو الشبكة إلى خفض إنتاج المصادر التقليدية، مثل محطات الدورة المركبة الغازية.
ومعروف أن الطاقة المتجددة:
- لا توفر خدمات الاحتياطيات الساخنة لأنها تعمل بكامل قدرتها.
- لا تملك العزم الدوراني الكافي لامتصاص التغيرات المفاجئة.
- تعتمد على محولات طاقة ساكنة (inverters) لا تُسهم في الخدمات الفرعية، كتنظيم التوتر وتوفير الطاقة التفاعلية.
في المقابل، تتميز محطات التوليد التقليدية القائمة على المولدات الكهربائية بقدرتها على توفير خدمات العزم، وضبط التردد، وتقديم دعم للطاقة التفاعلية.
والحل المقترح إنشاء محطات لتخزين الكهرباء بسعة تعادل 5% من إجمالي القدرة المركبة للطاقة المتجددة، بهدف امتصاص الكهرباء وضخّها، وتشغيلها وفق نظام الشحن في النهار (من مصادر متجددة منخفضة التكلفة) والتفريغ في الليل لتأمين الاستقرار.
أفضل مثال هو منحنى كاليفورنيا للطاقة، الذي يشبه إلى حدّ كبير منحنى الطلب في إسبانيا من حيث التوقيت والقدرة.

تطوير أنظمة الحماية لتفادي العزل الخاطئ
تُعدّ أنظمة الحماية خط الدفاع الأول، إذ تعمل تلقائيًا عند تجاوز القيم الحدية مثل عتبات التردد، مما يؤدي إلى عزل الفواصل الكهربائية.
ومن الممارسات الحالية في التصميم هي ازدواجية الحماية في كل منشأة لضمان استمرار العمل في حال تعطُّل أحد الأنظمة.
لكن من أبرز الأخطاء الشائعة الانفصال الخاطئ (False trip)، إذ تتسبب الحماية في إخراج منشآت من الخدمة دون داعٍ، مما يؤدي إلى خسائر كبيرة.
ولتفادي مثل هذه الأخطاء، يجب تطوير أنظمة الحماية عبر اعتماد نموذج التصويت الثلاثي (Triple Modular Redundancy)، الشائع في أنظمة التحكم.
ويتميز النظام بـاستقبال 3 إشارات من 3 وحدات مختلفة ومعالجة النتائج عبر التصويت بالأغلبية، ثم اتخاذ القرار بشأن إصدار إنذار أو تنفيذ العزل.
تطبيق هذا النظام في أنظمة الحماية سيُقلل من حالات العزل الخاطئ ويُحسّن دقة الأداء.
إعادة الاهتمام بمحطات تخزين الهواء المضغوط
من بين المحطات التي يمكن أن تُسهم في تحسين استقرار الشبكة الكهربائية، خاصة تلك التي تعتمد بشكل كبير على مزيج من الطاقة المتجددة، تبرز تقنية تخزين طاقة الهواء المضغوط (CAES).
وتُشحَن هذه المحطات خلال أوقات انخفاض تكلفة إنتاج الكهرباء، وتُفرَّغ خلال أوقات الذروة أو الحاجة، مما يجعلها وسيلة فعالة لتحقيق التوازن في الشبكة.
ورغم تراجع الاهتمام بهذا النوع من التخزين في السنوات الأخيرة بسبب الصعوبات المرتبطة بدورة الهواء المضغوط، فإنها تظل ذات أهمية إستراتيجية، لكونها:
- تتيح تخزين كميات كبيرة من الكهرباء لأوقات طويلة.
- تُسهم في تسهيل إدماج الطاقة المتجددة، خاصة الشمسية، على نطاق واسع.
- تُمكّن من دعم الشبكة وقت الحاجة.
ولهذا يجب إعادة النظر بالاستثمار في محطات تخزين طاقة الهواء المضغوط، والعمل على تحسين كفاءتها ومردودها من خلال الابتكار التكنولوجي، لما لها من دور محوري في دعم استقرار الشبكات الغنية بالطاقة المتجددة.
تعزيز الحماية السيبرانية لأنظمة التشغيل
تُدار المنظومة الكهربائية بالكامل بوساطة برامج رقمية معروفة تُستعمل على نطاق واسع في أنظمة تشغيل الشبكات حول العالم، ومع الانتشار الكبير للشبكات الموحدة عالميًا مثل الإنترنت والإنترانت، تزايدَ احتمال تعرُّض هذه الأنظمة للاختراق.
ورغم وجود برمجيات حماية متطورة، يبقى خطر الهجمات السيبرانية قائمًا، خصوصًا مع التطور السريع في تقنيات القرصنة والتجسس الرقمي.
هذا الوضع يُشكّل تحديًا كبيرًا، إذ إن اختراق منظومة التحكم في الشبكة الكهربائية لا يُهدد فقط استقرار النظام الكهربائي، بل يُهدد أيضًا سلامة الدول وأمنها القومي، نظرًا لحساسية البيانات والمعدّات المرتبطة بالشبكة الوطنية.
ولهذا أصبح لزامًا تعزيز الأمن السيبراني للشبكات الكهربائية، من خلال تطوير أنظمة حماية متعددة المستويات، وتكثيف اختبارات الاختراق الدورية، وتكوين فرق استجابة سريعة لمجابهة أيّ هجمات محتملة.
أهمية إجراء محاكاة واقعية للحوادث الانقطاع
بالنظر إلى الأهمية البالغة للمنظومة الكهربائية، فإنها لا تخضع عادةً لاختبارات محاكاة واقعية، بل تعتمد غالبًا على محاكاة نظرية محدودة النطاق، وهذا يشكّل نقطة ضعف كبيرة، خصوصًا أن العديد من المناطق لم يواجه انقطاعات شاملة أو جزئية من قبل، وحتى في حال حدوثها، يُحاط الأمر بسرّية تامة نظرًا لحساسية المعلومات المتعلقة بالمنظومة الكهربائية.
ومن الضروري تطوير أنظمة محاكاة متقدمة تحاكي حوادث واقعية بكامل تفاصيلها، تُمكّن فرق التشغيل من التمرن على التعامل مع سيناريوهات الطوارئ الحقيقية، وتعزز قدرة المنظومة على الصمود والاستجابة الفعالة.
وتبقى حادثة انقطاع الكهرباء في إسبانيا محفورة في ذاكرة كل مشغّلي منظومة الكهرباء، نظرًا لكونها حادثة مفاجئة تسببت في خسائر فادحة خلال ساعات قليلة فقط، ولحسن الحظ، وقعت هذه الحادثة خلال النهار وخارج أوقات الذروة، مما قلّل من حجم الخسائر المحتملة.
شمل الانقطاع كلًّا من البرتغال وجزءًا من جنوب فرنسا، وأثّر مباشرةً بقطاعات حيوية، كالنقل، والصحة، والصناعة.
ورغم أن الأسباب الحقيقية للحادثة قد تستغرق شهورًا من التحقيق والتحليل، فإن إجراءات أولية عاجلة تُتَّخذ لتفادي تكرار مثل هذه الأحداث، على أن تُعتمَد لاحقًا إجراءات نهائية بعد استكمال التشخيص الفني.
في المقابل، بدأت تظهر تصريحات تُحمّل الطاقة المتجددة، خاصة الطاقة الشمسية، مسؤولية ما حدث، وتدعو إلى العودة للاستثمار في الطاقات التقليدية، ولا سيما الطاقة النووية، بدعوى قدرتها على مواجهة الأزمات، غير أن مثل هذه الدعوات تشكّل تراجعًا خطيرًا عن التقدم المُحرَز في مجال الانتقال الطاقي، وتهدد بنسف ما تمّ بناؤه والتخطيط له خلال السنوات الماضية نحو منظومة طاقية نظيفة ومستدامة.
علينا أن نتذكر أن انقطاعات شاملة حدثت سابقًا في دول صناعية كبرى، حتى في ظل اعتماد شبه كامل على الطاقات التقليدية، ما يعني أن الخلل لا يكمن في طبيعة المصدر الطاقي.
وشهدنا خلال جائحة كورونا تباطؤًا عالميًا في مسار الانتقال الطاقي، مما أدى إلى إعادة تشغيل محطات تقليدية قديمة كانت مبرمجة للإغلاق، كالتي تعمل بالفحم أو الطاقة النووية، وهو مسار لا يجوز أن يتكرر في ظروف مثل هذا الانقطاع.
وأعيد التأكيد أن مزيج إنتاج الكهرباء في إسبانيا يمثّل نموذجًا مثاليًا في مجال الانتقال الطاقي، ويستحق التثمين والتطوير بما يضمن استقراره ومرونته في مواجهة التحديات المستقبلية.
* د. مراحي رضا - باحث وخبير في مجال الطاقة.
* هذا المقال يعبّر عن رأي الكاتب، ولا يعبّر بالضرورة عن رأي منصة الطاقة.
موضوعات متعلقة..
اقرأ أيضَا..
0 تعليق