حلمي التوني.. بوابة عبور البسطاء إلى عالم الفن التشكيلي

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابعنا علي تليجرام

إيمان صبري خفاجة
نشر في: الأحد 22 سبتمبر 2024 - 4:32 ص | آخر تحديث: الأحد 22 سبتمبر 2024 - 4:33 ص

إلى روح الصديق حلمي التوني الذي لفت نظر جيل بأكمله إلى تفاصيل الحياة الشعبية المصرية الأصيلة؛ "الهدهد - السرير النحاس - المنديل أبو أوية -  الدكة – الهون -  بابور الجاز" شكرا على كل ما قدمته لنا من كم هائل من أشياء نعيشها ولكن كثيرين لا يهتموا بها.


بهذه الكلمات ودّعت مصممة الحلي المصرية عزة فهمي، الفنان حلمي التوني؛ بعدما وضعت يدها ببساطة  كلماتها على نقاط القوة وأسباب التفرد في لوحاته، بالإضافة إلى أسباب التفاف الجميع حول أعماله حتى هؤلاء البسطاء الذين لا يعلمون الكثير عن عالم الفن التشكيلي.

"التوني" عمل بوصية أستاذه الكاتب الصحفي الراحل أحمد بهاء الدين، الذي أوصاه منه حين بدأ العمل في مؤسسة "أخبار اليوم"، بما أسماه "الرحمة الثقافية"؛ أي اختيار أبسط الطرق للتعبير عن الطبقات المطحونة ومن ثم القدرة على التواصل معهم.

تعلق "التوني" بالرموز الشعبية التي كانت جزء لا يتجزأ من لوحاته؛ وعن أسباب اختياره لهذا النوع من الفن في الرسم وتصميم أغلفة الكتب، تطرق لهذا السؤال مرارا وتكرارا ولكن كانت الإجابة الأبرز، عندما حل ضيفًا على الكاتب الصحفي إبراهيم عيسى، في برنامج "حديث القاهرة" على شاشة "القاهرة والناس"، في حلقة كانت بمثابة معرض خاص أقيم على الهواء، فقد اختصه التوني بمجموعة لوحات كانت تُعرض حينها للمرة الأولى.

أكد "التوني"؛ أن السبب الرئيسي خلف اختياره اللون التراثي الشعبي، يعود للفترة التي أعقبت تخرجه في كلية الفنون الجميلة؛ حين سأل نفسه: أي لغة فنية يتحدث؟ خاصة أن الفن التشكيلي له العديد من اللغات، فهو يصنف نفسه كابن للمدرسة الغربية؛ تأثرًا بفن عصر النهضة الذي درسه في كلية الفنون الجميلة؛ خلال خمسينيات القرن الماضي.

ولكن السؤال دار بذهنه مجددًا: "هل الفن الغربي يعكس حضارته؟" كانت الإجابة في غاية الصعوبة؛ لأنه ليس فنانًا فرعونيًا أو قبطيًا أو إسلاميًا، وليس أيضًا رومانيًا أو يونانيًا، ولكن مصر هي كل ما سبق؛ فاكتشف أن مصر هي الفنان الشعبي الذي مزج هذه الفنون بدون وعي أو دراسة أكاديمية، هو بمزاجه وبما يحب اختار الفن الشعبي؛ لذلك قال "التوني": "الفنان الشعبي هو أستاذي"، ومن هنا كان الطريق الفني الذي تفرد به طيلة رحلته.

كان أبرز مفردات "التوني" الفنية "الهدهد" الذي لم يُستَعن به من قبل، وكان للتوني رأي آخر، فالهدهد وإن لم يرتبط بالفن المصري، فهو مرتبط بالأسطورة؛ أسطورة سليمان، لذلك كان يراه دائما رمزًا للتبشير، بالإضافة إلى أنه رفيق المرأة وحافظ سرها، فضلا عن صورته المميزة، فاعتبره الفنان التشكيلي أنثى الطيور بالرغم من كونه مذكرًا.

المرأة أيضًا كانت دائمًا حاضرة في أعمال التوني، وكل الرموز الأخرى كانت تدور في فلكها، وذلك لأنه كما كان يصف نفسه دائما: "أنا بتاع الفن والوطنية متمثلين في بهية، وحرية المرأة عندي مقدسة، وأحب المرأة الحرة، وأحب الفلاحة المصرية".


لم يكن ذلك هو السبب الوحيد، ففي سياق آخر صرح بأنه ينظر للمرأة نظرة عطف وإعجاب في نفس الوقت؛ واعتبرها "مظلومة"؛ فهي نصف المجتمع لكنها تعامل كأقلية حتى الآن، فإذا كانت الدولة تنصفها، فالمجتمع والبيوت لا ينصفونها.

من يدقق في إنتاج "التوني" يلحظ أنه نادرا ما يرسم الرجل سوى في صور رمزية ساخرة، كأن يرسمه حصانًا تمتطيه المرأة، قاصدًا بذلك البطولة لا الإساءة؛ ووجود المرأة على هذه الشاكلة؛ تعني قدرتها على المراوغة والترويض والتمسك بالبطولة واستمراريتها.

جسّد التوني المرأة في أكثر من صورة؛ كان أبرزها الفلاحة المصرية التي تحمل بلاصًا تتدفق منه المياه سائلة تحت قدميها؛ مثلما قال: "أنا من الفنانين الذين يتفاعلون مع الحياة، ف أنا أتكلم عن النيل، وحين أرسم النيل لا أرسمه مركب وشراع، أنا أحول النيل إلى الفلاحة المصرية فهذا هو نيلها".
ظلت ملامح الفلاحة المصرية  تسيطرعلى الحضور الأنثوي في لوحات "التوني"؛ وكان يرفض تماما أن يرسمها قبيحة فـ"بهية" دئما جميلة في كل حالاتها، ويتغير معناها بتغير الرموز المصاحبة لها في اللوحة، فحين ترى الوردة في فمها؛ إذا هي رومانسية، أما إذا استبدلها بالسمكة؛ فهذا يرمز إلى الرغبة في الإنجاب فالسمك رمز للخصوبة، وإذا وجدت المرأة تحمل البيضة في كفها؛ فهي زاوية درامية تعبر عن هشاشة بذرة الحياة، وحين تحمل شمعة فهذا دليل على الاستنارة ومعرفة الطريق، وإذا جاء بالحمامة معها في كادر واحد فهذا يعني الرومانسية الزائدة والطوق الدائم إلى الحرية.

ومن الفلاحة المصرية إلى بنت البلد التي ترتدي الملاءة اللف والبرقع؛ وهو الزي الرسمي للمرأة المصرية حتى بداية حقبة الخمسينيات، والسبب أنه يعتبر هذا الزي خير مُعبر عن قدر الاحتشام، وفي نفس الوقت الكثير من الدلال.

وحين يرسم بجانبها رجلًا يرتدي الطربوش والعباءة، وتميل حواء برأسها على كتفه؛ آنذاك يعبر عن قصة حب مصرية أصيلة بقوله ضاحكا: "دول روميو وجولييت بتوعنا".

كثيرة هي الصور التي عبر فيها عن المرأة في حالات مختلفة، لكن تظل تيمة المرأة والطفل هي الأشهر بين لوحاته؛ كرمز للسيدة العذراء والسيد المسيح، وذلك تحية منه إلى الفن المصري القبطي الأكثر تأثيرا في تاريخ الفن المصري لأكثر من 800 عام، وبالرغم من ذلك أهمل لفترة طويلة، لذلك لم يتوقف اهتمامه بهذا الفن على تيمة السيدة العذراء والمسيح، فقد أقام معرضًا بعنوان "تحية إلى الفن القبطي: ضم أكثر من 50 لوحة. وكما كان للسيدة العذراء حضورًا لافتًا في لوحاته، كانت هناك سيدة أخرى عرفت بالمرأة المجنحة التي ظهرت للمرة الأولى عن طريق الصدفة أثناء تواجده في لبنان حيث كان يعمل في المؤسسة العربية للدراسات والنشر، تقدمت الكاتبة الراحة الدكتورة نوال السعداوي بكتابها الأول بعنوان الأنثى هي الأصل، فكانت الأنثى المجنحة يحيط بها  قفص يشير إلى القيود، وفي اجنحتها دلالة على المقاومة والرغبة في الخلاص، وظل يستدعي هذه السيدة في لوحاته مع كل حركة معادية للمرأة.

رسم التوني مئات اللوحات وأغلفة الكتب، بالإضافة إلى الأعمال الفنية التي أختص بها القليل من الفنانين كسيدة الغناء العربي أم كلثوم، واللوحات التي رسمها فقط من أجل أن يرفقها بمقطع من بيت شعر أو غنوة من أغنيات التراث، وبين هذا الإنتاج الضخم لا توجد لوحة تشبه الأخرى، لكنها تتطابق في أمرين: الأول هو النظرة المباشرة لأبطال اللوحة في عين المشاهد وفي ذلك دليل على الندية والتحدي مهما كانت الظروف، والأمر الثاني هو طابع البهجة الغالب على اللوحات حتى في الأوقات العصيبة؛ وقد كان ذلك منهجًا خاصًا بحلمي التوني ورؤيته الفنية  لنفسه؛ كما قال: "أنا فنان ملون، والناس مش ناقصة، يجب عليا أن أكون مغني لا معدد يلطم الخدود".

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق