بين بقاء إسرائيل وزوالها

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

عندما نتفوّه بكلمة (البقاء)، فإننا نقول: «البقاء لله». قد لا يروق هذا الكلام للبعض ممن لا يؤمنون؛ ولكنهم يُدركون أن كل ما في هذه الأرض يفنى، وقد لا يتريث البعض فيقول: «هل نعزو الآن استمرار إسرائيل أو اندثارها إلى الله؟»، ويضيف: «هل يكون الخوض في موضوع هذه المقالة له منطق عندما نُرجع البقاء والزوال إلى الله؟»، وهناك من سيقول بأن كاتب المقال منذ البداية سيقول بأن إسرائيل ستزول من خريطة العالم السياسية في يوم من الأيام.

سؤال نطرحه، وهو: لماذا يتحدث جميع المفكرين السياسيين والجغرافيين السياسيين وعلماء الاجتماع السياسي في العالم، سواء في بلدان الغرب الأوروبي أو أمريكا التي تكِدّ على جميع المستويات على استمرار إسرائيل في الوجود، عن مدى بقاء إسرائيل أو زوالها؟ والعكس، لا نتحدث عن بقاء أو زوال أفراد شعب اسمهم فلسطينيون، وأرض اسمها فلسطين، إلا من جهة واحدة هم الساسة الإسرائيليون.

على مدى عشرات العقود فإسرائيل باقية، هي دولة لها مساحتها الجغرافية الآن، وهويتها وقوميتها اليهودية، ولها لغتها العبرية، ولها نظام رئاسي انتخابي، ولجان ومجالس ومؤسسات سياسية وعسكرية واقتصادية واجتماعية. في المجمل، لها قضية وجودية تستميت عليها، وعبّأت لها جيشا تقول إنه لا يُقهر، وعُدة حربية متطورة تكنولوجيا ومعلوماتيا بالمقارنة مع دول المواجهة. وليعلم الجميع أن كل هذا موجه بنمط سياسي وصناعي ظرفي آني لهذا الغرض، ولا هدفا آخر غيره، وهذه نقطة ضعف؛ فالاستمرار في الوجود يحتاج إلى سياسة عسكرية واقتصادية واجتماعية أخرى، يحتاج إلى مشروع يرقى إلى الحضارة الإنسانية أكثر من مشروع عسكري يرمي به نفسه إلى تهلكة لا رجعة له منها.. فهي إذن دولة عسكرية، تتمنطق دائما بالحزام العسكري وبالجزمة العسكرية، وتمتشق السلاح الناري في وجه من يقول: “سنُزيل إسرائيل من على وجه الأرض”.

على عشرات السنين، فإن إسرائيل تستمر في وجودها ضد سنة دائرة الكون والتاريخ، ومتغيرات المسافة والمساحة الجغرافية، وتحول مراكز القوة السياسية والاقتصادية والعسكرية في العالم عبر الزمن؛ فهي تنفذ الآن اغتيال زعماء ورؤساء تنظيمات سياسية لها مرجعية دينية إسلامية أو غيرها التي تُرجئ معركة إنهاء وجود إسرائيل إلى حين؛ في حسبان إسرائيل أنه انتصار، وهو عمل لسياسيين منتخبين قوميين يُداولون الحكم فيما بينهم خلال فترة الجيل القصيرة، ويتسترون عن انزلاقات يومية مادية سخيفة بالمقارنة مع المعركة المصيرية، فهم ضيقو الأفق من ناحية سياسة وجودية بعيدة المدى.

هل يريد اليهودي أن تظل إسرائيل في حرب؟

فكل وجود جغرافي سياسي يُخطط، سواء على المدى البعيد أو القصير، في أن يغزو؛ كوريا الشمالية تريد أن تتوسع، وإيران والصين واليابان والهند، وروسيا…، لتظل كل واحدة منها في موقع قوة، وإلا لماذا شنت روسيا حربا على أوكرانيا؟ فالغالب يفرض لغته واقتصاده وأنماط صناعته وإيديولوجيته على المغلوب، وما على هذا الأخير إلا أن يتشبه بالغالب؛ حسب التحليل الخلدوني.. تصوروا أن إسرائيل اجتاحت منطقة الشرق الأوسط بجيوشها، وخلقت دويلات تابعة وخانعة لها، وإسرائيليين من الدرجة الثانية من العرب أو غير العرب، ومسلمين سواء كانوا سنة أو شيعة، ومسيحيين سواء كانوا أرثودوكس أو كاثوليك، هل سيكون الاحتكاك عند حدود التوسع في نجاة من المواجهة العسكرية الدامية مع دولة توسعية أخرى؟

خلق كيان إسرائيل في منطقة الشرق الوسط نسف لكل محاولة نظام له مرجعية دينية أو قومية شمولية قد تحكم المنطقة، وإسرائيل نموذج تقطيع أوصال الجغرافية العالمية إلى مساحات جغرافية، في إطار فسيفساء السياسة العسكرية والاقتصادية الأمريكية التوسعية، فحضارة الغرب اللادينية في حرب حضارية ضروس مع الدين الإسلامي والمتدينين به، لأنه منصة عقائدية إيمانية رصينة، قوامها حفظ الدين والعرض…، فالمسلم جهاده المسلح من كمال دينه بل هو أساس إيمانه، ومسيحيو الأديرة والكنائس لا يحملون سلاحا ولا يحاربون، وإلا فإنهم يخالفون السلام المسيحي. لذلك، ثار الغرب على المسيحية، وفرّقها إلى مذاهب وشيع حسب الأهواء الآدمية (الأرثوذوكس / الكاثوليك/ البروتستانت/ الأنجليكان/ الفرنسيسكان/ الكويكرز/ الأميش…)، وفصله عن الدولة، لأنه كان عائقا، فغدا بدون أخلاق دينية، فحارب بعضه بعضا في حربين كونيتين، وقتل بعضه بعضا، وغزا بلدان ما وراء البحار بمواجهات دامية إبادية، متجردة من كل حس إنساني، ويجري الأمر نفسه كذلك في قطاع غزة الفلسطيني الآن.

على الأقل إن إسرائيل الآن تريدها حربا شاملة في منطقة الشرق الأوسط؛ لماذا؟ لأنها تريد أن تنهي المعركة لصالحها، وأن تعيد هيبتها وردعها.. هذه الحرب التي خاضتها بين الكر والفر، منذ سبع وسبعين سنة، مع دول الطوق (مصر؛ سوريا، الأردن…) في حرب 1967م وحرب 1973م؛ لأنها تحت حماية حاملات طائرات أمريكا وإنجلترا وفرنسا…، وجهاز مخابراتها (الموساد) اخترق كل شبر في الأرض، وعلى اطلاع على كل شاردة وواردة، بمساعدة وتأهيل من مخابرات من أمريكا وفرنسا وإنجلترا…؛ فمن صنع الأقمار الاصطناعية التجسسية، وتحكم فيها بأدق تقنية، وثبتها فوق رؤوس الآدميين، غير هذه الدول المتقدمة صناعيا واقتصاديا وعسكريا؟ لقد ذهب رئيس إسرائيل نتنياهو إلى حد تهديد رئيس تركيا أردوغان، إذ قال: «احذروا!»؛ لأنه كما قلنا في حضن وحمى من يصول ويجول بأسطول وجيوش برية وطائرات، مُسيطرا على بحار ومحيطات العالم، وأجواء الأرض، وفضاء الكون الخارجي.

فمن إذن يحاول أن يحُد من قوة إسرائيل، أو يُنهي حلمها الاستيطاني التوسعي اليهودي في المنطقة؟

لن يكون من الخارج، بل سيكون من الداخل؛ كيف؟

ألم يكن يحيى إبراهيم حسن السنوار أحد فلسطينيي غزة، عاش تحت الاحتلال الإسرائيلي مدة سنوات عمره، وسجن مدة تزيد عن عشرين عاما في سجونه، وخضع للتحقيق بمختلف الاستنطاقات، وعلى اطلاع وعلم بنقط ضعف وتناقضات المجتمع الإسرائيلي؟ أليس السنوار من داخل ذلك العالم الإسرائيلي؟ فإسرائيل قرش ينزف من الداخل فيتنسم دماءه، فيلتهم أحشاءه، لذلك سعى (نتنياهو) إلى أن ينقل المعركة النزيفية من الداخل إلى الخارج، وهو عمل هستيري…، فالمجنون يضرب المارة بأي شيء تقع عليه يداه، فـ”معظم النار من مستصغر الشرر!”.

صدر في سنة 1976م عن دار النشر الفرنسية (ماسون؛ MASSON)، كتاب في إطار سلسلة (ملفات التاريخ) كان يديرها المؤرخ الفرنسي الشهير بيير كًوبير 1915م- 2012م؛ Pierre Goubert)؛ عنوانه (البحر الأبيض المتوسط العربي والشرق الأوسط في القرن العشرين؛ La Méditerranée arabe et Le Proche-Orient au XXe siècle)، يضم مجموعة من المقالات التاريخية بأقلام خمسة من كُتاب التاريخ، تناولت تاريخ دول منطقة الشرق الأوسط العربية وتركيا وإيران وإسرائيل، وجغرافيتها وسياستها واقتصادها ومواردها الطبيعية، وخاصة ثروتها من البترول، وحركاتها الاستقلالية، وأنظمتها الحاكمة، وتوجهاتها السياسية ومرجعياتها الدينية والقومية، ومشاريعها السياسية والاقتصادية، فما هي الخلاصة من هذه الدراسة التاريخية؟ في الصفحتين 116 و117 الأخيرتين من الكتاب، نقرأ عنوانا في صيغة سؤال؛ هو: خاتمة: هل الشرق الأوسط قنبلة العالم (أو برميل بارود العالم)؟ Conclusion : Le Proche-Orient ; poudrière du monde?) ، تناولت الورقة نقطتين أساسيتين: الأولى النزاع حول جزيرة (قبرص)، والثانية مشكل إسرائيل؛ جاء في الفقرة الأخيرة من المقال ما يأتي: «المفاوضات بين إسرائيل وجيرانها من العرب للانسحاب من الأراضي المحتلة تسير بشكل بطيء، تحت تدخل الولايات المتحدة الأمريكية الدبلوماسية والمالية…». كانت هذه الدراسة واستنتاجها التنبؤي قد صدرت في سبعينيات القرن العشرين.. وها نحن نرى إلى أين يسير مصير منطقة الشرق الأوسط، ستكون تحت نيران حرب لا هوادة فيها.

ثلاثة عوامل تهدد وجود إسرائيل: الأول تاريخي، والثاني جغرافي، والثالث عقائدي.

ـ دائما تكون لنا عودة إلى التاريخ؛ فنتساءل: «كيف نشأت إسرائيل؟»؛ نجيب بأنها نشأت في فترة زمنية؛ لها أسباب ودوافع لأحداثها؛ فقد تمت إقامة دولة إسرائيل في إطار غزو أراضي ما وراء البحار والمحيطات من طرف الدولة الأوروبية الحديثة؛ بعامل واحد فقط هو التفوق في المجال العسكري؛ بالمقارنة مع شعوب تلك البلاد التي كانت لا تزال تحارب بالحراب والعصي والحجارة، ولم يكن شعب الشام والحجاز أكثر حظا من تلك الشعوب المستضعفة؛ إذن فإسرائيل كانت نتيجة ظرفية ملحاحة، وقد تغير هذا الأخير، وانبعثت الدول المحيطة بها من رمادها؛ فكان لزامًا على إسرائيل انتهاج سياسة مغايرة لتلك التي سعت إلى فرضها على المنطقة في بداية تكوينها؛ وقد ظل الغرب وفيا لها، ويعمل لدعمها كما في الماضي؛ بكل إمكانياته العسكرية، وتفوقه في هذا المجال، وفي تطوير أجهزته المخابراتية ووضعها رهن إشارة إسرائيل؛ إذن فالتاريخ يتبرأ من هذه الأخيرة؛ ويحذرها من مغبة ظهورها بدعم الآخر.

ـ جغرافيًا، رُسمت حدود قومية لشعب اليهود في جهة بعينها من العالم، ذات بيئة اجتماعية ودينية وإثنية مختلفة، وفي منطقة تاريخية تمور بأديان وشعوب ومرجعيات سياسية ودينية وطموحات توسعية واقتصادية عديدة؛ فحروب الشرق الأوسط الحالية لا تختلف عن حروب العصر القديم والوسيط والحديث بين الفرس واليونان من جهة، وبين الفرس والعرب المسلمين وبين هؤلاء الأخيرين والمغول الهاجمين وبين المسلمين والصليبيين وبين الدولة العثمانية والدول الأوروبية الحديثة إلا بالتسابق بحيازة السلاح النووي الرادع وبحاملات الطائرات وبأقمار التجسس وبالقنابل الذكية، وهذه ما هي إلا وسائل؛ ففرص امتلاكها متاحة لأقوام المنطقة، فإسرائيل تحت رحمة الجغرافية؛ إما أنها كائنة في جوار مع آخرين وحتم عليها نهج سياسة وجودية متكافئة معهم، أو كيان ناشز يعتمد على سياسة قارية أخرى يكون مصيره مُتأرجحا.

عادت شعوب وأقوام وأقليات العالم إلى التدين، بعد تراجع التمذهب بالمرجعية الشيوعية، ودرءا لهجمة أنماط العولمة الشرسة والذوبان فيها، والدين من مرتكزات الهوية ومبدأ حاسم في رفع همم القوميات واستمرار وجودها، في هذا السياق اشتد تدين إسرائيل بيهوديتها؛ لأنه يدخل في تأسيس هويتها، ويؤدون طقوس حائط (البراق)؛ ووراء هذا العرق، ثم اللغة العبرية، فاللغة القومية تفرض وجودها على المخططين الإسرائيليين، لأن بدونها، ومن هذا الذي يتدين باليهودية، ويتعلم العبرية، ويسعى إلى الاستفادة من (الحضارة) اليهودية؟ لأنهما لا يخدمان إلا اليهود دون غيرهم، والنجاع في تصديرهما لاكتساب تأييد وتحالف وعطف ضعيف جدا؛ ففي هذا عزلة قاتلة ومدمرة.

فإسرائيل دولة (شرقأوسطية)، وليس في قارة أخرى، فإن ترفض التماهي في محيطها الجغرافي الواقعي، فهي تفرض نفسها بالقوة العسكرية، والتفوق في الحروب حدث آن؛ فهو إلى حين، وهو امتحان عسير لها، والأمن والاستقرار السياسي دعامة للتطور الاقتصادي، فهي لهذا الغرض الأخير تتأرجح بين التطبيع وفرض نفسها بالتفوق العسكري وإنهاء القضية الفلسطينية.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق