تشهد الأوساط الأكاديمية والسياسية في الولايات المتحدة تطورًا مثيرًا مع إعلان استقالة كاترينا أرمسترونج، الرئيسة المؤقتة لجامعة كولومبيا، بعد أسبوع واحد فقط من موافقتها على مطالب إدارة الرئيس دونالد ترامب.
ووفقًا لتقرير نشرته صحيفة "واشنطن بوست"، جاءت هذه الاستقالة على خلفية صراع حاد بين الجامعة وإدارة ترامب حول التمويل الفدرالي، والذي تصاعد بعد قرار الحكومة قطع تمويل بقيمة 400 مليون دولار عن الجامعة في وقت سابق من هذا الشهر.
يُعد هذا الحدث نقطة تحول في العلاقة المضطربة بين المؤسسات الأكاديمية الكبرى وسياسات ترامب، مما يثير تساؤلات حول الحرية الأكاديمية وتدخل الحكومة في شؤون الجامعات، فضلًا عن ردود الفعل الدولية، بما في ذلك موقف الصحافة والحكومة الإسرائيلية تجاه الاحتجاجات الطلابية المؤيدة لفلسطين التي كانت محور الأزمة.
بدأت الأزمة عندما واجهت جامعة كولومبيا، إحدى أعرق الجامعات الأمريكية التي تأسست عام 1754، ضغوطًا متزايدة من إدارة ترامب بسبب احتجاجات طلابية مؤيدة لفلسطين شهدها الحرم الجامعي خلال العام الماضي.
هذه الاحتجاجات، التي اندلعت كرد فعل على الحرب في غزة، أثارت انقسامات عميقة داخل المجتمع الأكاديمي والمجتمع الأمريكي بشكل عام.
وصفت إدارة ترامب هذه التظاهرات بأنها "معادية للسامية"، متهمة إدارة الجامعة بالتساهل مع خطاب الكراهية وعدم توفير بيئة آمنة للطلاب اليهود.
ونتيجة لذلك، أصدرت الحكومة الفدرالية قرارًا في 7 مارس 2025 بقطع التمويل عن الجامعة، مشيرة إلى أن كولومبيا لم تلتزم بقوانين مكافحة التمييز الفدرالية، وهي شرط أساسي للحصول على الدعم المالي.
ردت جامعة كولومبيا في البداية بالدفاع عن موقفها، مؤكدة التزامها بحرية التعبير وحق الطلاب في التظاهر السلمي. لكن الضغوط المالية الهائلة، التي هددت استدامة برامجها البحثية والتعليمية، دفعت إدارة الجامعة إلى التفاوض مع إدارة ترامب.
وبعد مفاوضات مكثفة، أعلنت الجامعة في 21 مارس 2025 عن حزمة من التغييرات الكبرى التي استجابت لتسعة مطالب رئيسية وضعتها الإدارة، من بينها حظر ارتداء الأقنعة في التظاهرات، تفعيل قوة شرطة الحرم الجامعي، ووضع قسم دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا وأفريقيا تحت "الوصاية الأكاديمية" لمدة خمس سنوات، مما يعني تعيين شخص خارجي للإشراف على قرارات القسم بدلًا من الهيئة التدريسية.
هذه التنازلات أثارت غضب العديد من أعضاء هيئة التدريس والطلاب، الذين رأوا فيها استسلامًا لضغوط سياسية تهدد جوهر الحرية الأكاديمية.
تجدر الإشارة إلى أن استقالة كاترينا أرمسترونج لم تكن مفاجئة تمامًا بالنظر إلى التوترات الداخلية التي عصفت بالجامعة بعد هذه التسوية.
أرمسترونج، التي تتمتع بخلفية أكاديمية مرموقة كطبيبة وباحثة في مجال الصحة العامة، كانت قد شغلت منصب عميدة كلية الطب في جامعة بنسلفانيا قبل انضمامها إلى كولومبيا كرئيسة مؤقتة في أغسطس 2024، خلفًا لنعمت شفيق التي استقالت أيضًا على خلفية احتجاجات غزة.
اشتهرت أرمسترونج بأبحاثها حول العدالة الصحية وتقليص الفوارق في الرعاية الطبية، مما جعلها رمزًا للتقدمية في الأوساط الأكاديمية. لكن تحديات قيادة كولومبيا في ظل الأزمة الحالية، حيث واجهت ضغوطًا متضاربة من إدارة ترامب من جهة والطلاب وأعضاء هيئة التدريس من جهة أخرى، وضعتها في موقف بالغ الصعوبة.
وفي بيانها الرسمي، أشارت إلى أن قرارها بالاستقالة جاء بعد "تفكير عميق"، مضيفة أن مغادرتها قد تساعد الجامعة على "التعافي والتقدم"، لكن مصادر داخلية كشفت أن شعورها بالعجز عن الدفاع عن قيم الجامعة، إلى جانب الانتقادات اللاذعة من زملائها، دفعها لاتخاذ هذا القرار.
الحادثة لم تمر دون أن تلقى صدى دوليًا، خاصة في إسرائيل، حيث كانت الاحتجاجات الطلابية المؤيدة لفلسطين في الجامعات الأمريكية، بما في ذلك كولومبيا، موضع اهتمام كبير من الصحافة والحكومة الإسرائيلية. الصحافة الإسرائيلية، مثل صحيفة "هآرتس"، تناولت هذه الاحتجاجات بقلق بالغ، معتبرة إياها تهديدًا للعلاقات الأمريكية-الإسرائيلية.
كتب مراسل "هآرتس" في نيويورك، إيتان نحمياس، أن "الاحتجاجات تمثل نقطة تحول خطيرة، حيث تتحول الجامعات الأمريكية إلى مراكز للمعارضة ضد إسرائيل، مما قد يؤثر على الدعم السياسي والعسكري طويل الأمد".
كما أشار إلى أن رد الإدارة الأمريكية، بما في ذلك الضغط على كولومبيا، يعكس "رسالة تخويف" لكل من ينتقد إسرائيل، وهو ما اعتبره البعض نجاحًا للضغط الإسرائيلي غير المباشر على السياسة الأمريكية.
من جانبها، اتخذت الحكومة الإسرائيلية، بقيادة بنيامين نتنياهو، موقفًا متشددًا تجاه هذه الاحتجاجات.
في تصريحات رسمية، وصفت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الإسرائيلية، ليئور حياة، المتظاهرين بأنهم "داعمون للإرهاب"، متهمة إياهم بـ"نشر خطاب الكراهية ضد اليهود تحت ستار الدفاع عن حقوق الإنسان".
كما أشارت إلى أن إسرائيل تعمل مع حلفائها في واشنطن لضمان "عدم تحول الجامعات إلى بؤر للتطرف"، في إشارة واضحة إلى التعاون مع إدارة ترامب في فرض عقوبات مالية وسياسية على المؤسسات التي تتساهل مع مثل هذه الحركات.
هذا الموقف عكس استراتيجية إسرائيلية أوسع تهدف إلى مواجهة الاحتجاجات الطلابية عبر الضغط الدبلوماسي والإعلامي، بل وصل الأمر إلى تقارير عن شبكات تجسس تستهدف الطلاب المؤيدين لفلسطين في الجامعات الأمريكية، وفقًا لتحقيقات نشرها موقع كولومبيا تايمز.
في المقابل، أثارت ردود الفعل الإسرائيلية انتقادات داخلية وخارجية. ففي إسرائيل، حذر كتاب بارزون مثل جدعون ليفي في "هآرتس" من أن "الهجوم على الاحتجاجات الطلابية قد يأتي بنتائج عكسية، معززًا من صورة إسرائيل كدولة تقمع حرية التعبير عبر حلفائها".
أما على الصعيد الدولي، فقد اعتبرت منظمات حقوقية، مثل "هيومن رايتس ووتش"، أن الضغط الإسرائيلي-الأمريكي المشترك على الجامعات يشكل "انتهاكًا خطيرًا" للحق في الاحتجاج، داعية إلى حماية الطلاب من التدخلات السياسية.
أعاد هذا التطور إلى الأذهان التاريخ الطويل لصراع الجامعات الأمريكية مع السلطة السياسية، خاصة في ظل إدارة ترامب التي اتخذت موقفًا متشددًا تجاه المؤسسات التعليمية التي تتبنى آراء ليبرالية أو تدعم حركات احتجاجية.
في هذا السياق، حذرت دونا ليبرمان، المديرة التنفيذية لاتحاد الحريات المدنية في نيويورك، من أن استسلام كولومبيا لمطالب ترامب "يضع سابقة خطيرة" تهدد الحرية الأكاديمية وحقوق التعديل الأول في الدستور الأمريكي المتعلق بحرية التعبير. وأضافت أن الجامعة كان بإمكانها رفع دعوى قضائية ضد إدارة ترامب لانتهاكها الحرية الأكاديمية، أو التعاون مع جامعات أخرى تواجه ضغوطًا مماثلة، لكنها اختارت بدلًا من ذلك "الخضوع للمتنمرين".
من جانب آخر، دافع مسؤول كبير في الجامعة عن قرار التسوية مع إدارة ترامب، مشيرًا إلى أن الجامعة كانت قد بدأت بمراجعة بعض الإصلاحات المطلوبة منذ صيف 2024، وأن الخيارات القانونية لمواجهة الإدارة تم بحثها لكنها لم تكن مجدية اقتصاديًا في ظل الخسائر المالية المحتملة.
لكن هذا الدفاع لم يخفف من حدة الانتقادات الداخلية، حيث اعتبر العديد من النشطاء أن مجلس الأمناء استغل تهديدات ترامب لتسريع حملة ضد الحركة الطلابية المؤيدة لفلسطين، وهو ما تجلى في تعليق الدراسة لعدد من الطلاب وطرد آخرين في وقت سابق من هذا العام.
في سياق متصل، يرى المحللون أن هذه الأزمة تعكس استراتيجية أوسع لإدارة ترامب تهدف إلى فرض سيطرة أكبر على الجامعات الأمريكية، مستغلة التمويل الفدرالي كأداة ضغط.
ترامب نفسه، الذي يحيط نفسه بدائرة من المستشارين اليمينيين المتشددين، كان قد وصف كولومبيا في تصريحات سابقة بأنها "مركز للتطرف"، مشيرًا إلى إرث المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد الذي درّس فيها لسنوات، والذي يعتبره أنصار ترامب رمزًا للمعارضة "الخطرة". هذه الرؤية تتسق مع تصريحات وزيرة التربية والتعليم ليندا ماكماهون، التي أكدت أن الجامعات يجب أن تختار بين التمويل الفيدرالي والالتزام بسياسات الإدارة.
في الختام، تمثل استقالة كاترينا أرمسترونج فصلًا جديدًا في أزمة جامعة كولومبيا مع إدارة ترامب، وتترك الجامعة في حالة من عدم اليقين مع اقتراب الفصل الدراسي الجديد. بينما يرى البعض أن الجامعة ضحت بمبادئها تحت الضغط المالي والسياسي، يعتقد آخرون أنها حاولت الحفاظ على استدامتها في مواجهة تحديات غير مسبوقة. لكن ما هو واضح أن هذه الحادثة ستظل نقطة نقاش حادة حول حدود الحرية الأكاديمية وتأثير السياسة على التعليم العالي في الولايات المتحدة، مع تداعيات قد تمتد لسنوات.
0 تعليق