هَا أنت تَعُـود عَصَر هذا اليوم -تحت شمس القيروان- إلى تُراب الذهيبات.
كأَنك كُنت تُرتب لهذه العودة بما يَليق من هُدوءٍ مُستحق بعد حياة صاخبةٍ كأنك كُنت تُشيد “زهرة البرية” لتُرافقك في المَوعد الصيفي لهذا المَساء. تجاه الأبدية الشاسعة. كأنك -وأنت المُنشغل دَوما بفِكرة العودة وبحكاياتها وأسئلتها وعُقَدها، وأنت المهُاجر، الطائر، الُمغترب، المُتوحد، اليتيم- تعثر في الأخير على جَوابٍ مُقنع لكل أوهام البحث المضني عن البدايات والأُصولُ ولكل وَجع الحنين الغامر وحُرقة المتَاهات التي يفتحها بحثنا الدائم عن عودة “سالمة” من قلق الهوية والوجود.
كَأنك – كما دأبت على الفعل – تتحايل علينا – قراءا وأصدقاء – لتصنع من عودتك الأخيرة بداية جديدة في مَشهد روائي يختلط فيه الواقع بالاستيهامات. كأنك تُفضل أن تَعود هذه المرة أريجا لزيتون الريف القيرواني أو عزفا مُنفردا صاعدا من سَمفونية عتيقة أو شعورا غامرا يمتلك قارئا مفتونا أمام نص عظيم، أو سَعادة مفاجئة تعبر حديث صديقين عن الأدب والسينما والحياة..
أو كأنك كُنت تريد أن تبقى وتظل وتُمسي: زهرة برية أبدية مُتمردة على باقات الوَرد المصنوعة بحذق التجار في اصطناع القواطف، وعُشبا معانِدا نبت بين مَفَاصل الصخر والوجع.
_____________
في فاتح ماي الماضي كان قد أكمل روايته السابعة “يوم موت سالمة” بَعد ثلاثة أشهر طَويلة من الآلام والمرض والمقاومة، كانت الكتابة خلالها تمرينًا مرهقا في مواجهة الموت.
قبل ذلك بأسبوع كان قد راسل الصديق الناشر الحبيب الزغبي، ليخبره -كما هي عادته على اجتراح الجمل القصيرة القاتلة- قائلا: “يوم موت سالمة” هي روايتي الأخيرة، ذلك أني سأموت بعد صدورها، قبل أن يلقي في وجهه بما يشبه وصيةٍ أخيرة: “تعهد بنشرها قبل أن أفعل. لقد قلت فيها كل شيء”.
لعل الكتابة كانت دائما فعلا سحريا يتطلع للانتصار على القدرة الرهيبة للزمن على المحو، لكن أن يجتمع وجع فراش الموت مع الإصرار على استكمال نص روائي تحت سقف زمني قياسي فلا يمكن لهذه الكثافة الاستثنائية المثقلة بالهشاشة والتحدي إلا أن تسمى حسونة المصباحي.
في رواية يوم موت سالمة الكثير من الاقتصاد الذي يعلمه الاقتراب القاسي من موت مفترس يتربص بالجسد والذاكرة، الاقتصاد في اللغة والكلمات لتدبير لحظة بوح أخير تصر الذات فيه أن تكتب تأملاتها حول الزهرة البرية المقيمة في تخوم غربة الخارج ويتم الداخل.
لذلك كانت الشهور الثلاثة كافية لترتيب نص بديع متحلل من الحشو والبلاغة وزخرفة اللغة التي لا تحتملها كلماته الحادة المزاج !
ولذلك كان يوم واحد كاف لكي يُسكن الكاتب كل عالمه الروائي المنسوج فوق حكاية موت قريبته.
_____________
ظل المغرب جزءا أصيلا من المتخيل الأدبي لحسونة المصباحي، وحرص في منجزه السردي على استلهام آثار لقاءاته الحميمية مع مدنه وفضاءاته.
أما في كتابه “الرحلة المغربية” فإن حسونة لم يكتب أدب رحلة يدون فيه الكاتب دهشة لقاء عابر بلغة سياحية ممتلئة باستعارات بلا خيال، بل كتب نصا في حب البلاد وفي مديح الصداقات الراسخة التي جمعته مع رموزها الأدبية والثقافية، ومع مدنها وصحرائها.
كان حسونة المصباحي في النهاية رَجُلا حُرا، بِلا أوهام. ولم يكن ذلك بالقطع سهلا في زمن القبائل الجديدة. قراءاته الواسعة وحيواته الممتدة والعصبية ستُمكنه سريعا من مُغادرة قُيود اليقينيات الإيديولوجية، بسردياتها القومية واليسارية والهوياتية، لكي يختبر قدرته على التحليق كابن مُستحق للإنسانية الرحبة.
عركته الحياة فاكسبت لغته حدة في قول الأشياء في كامل عُريها، بلا مواربة ولا زخرفة، ودون أي إغراء للتباهي مع “صوابية” سياسية سائدة أو مع “حزبية”. أدبية رائجة
_____________
في نهاية يوم خريفي لا ينسى، في ضيافة حسونة المصباحي بمنزله في “الذهيبات”، وبعد جولة طويلة بين أشجار اللوز والزيتون، ووجبة غذاء تونسية كاملة أعدها شخصيا بكرمه المألوف، وحديث لا يُمل عن الأصدقاء والروايات والأفلام وميونخ وأصيلا، وعن حياته الجديدة الموزعة بين القراءة والكتابة واستعادة أمكنة الطفولة.. وقفنا لبرهة أما بوابة منزله الجديد الذي شيده بشغف لا يوصف، بادرته بالسؤال، أمام أنظار نجل شقيقه، الشاب أحمد:
حسونة، من تكون هذه “الزهرة البرية”؟
فبادرني بجواب قاطع:
أنا.. طبعا أنا !
0 تعليق