للمتابعة اضغط هنا

بين المطرقة والسندان .. "كتاب المحن" يوثق الصراع على الشرعية الدينية

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابعنا علي تليجرام

1

يعدّ “كتاب المحن” لأبي العرب محمد بن أحمد بن تميم التميمي (المتوفى سنة 333 هـ) من أبرز المؤلفات التي تناولت موضوع المحن والابتلاءات التي تعرض لها العلماء والمفكرون في القرنين الثالث والرابع الهجريين. يمثل هذا العمل توثيقًا تاريخيًا مهمًا لأحداث محورية عن العلاقة بين السلطة الدينية والسياسية، بتسليطه الضوء على التجارب التي مر بها العلماء بسبب مواقفهم الفكرية أو السياسية أو الدينية.

يعتبرُ أبو العرب محمد بن أحمد بن تميم التميمي فقيهًا ومحدثًا من مدينة القيروان، ولد عام 251 هـ وتوفي عام 333 هـ. كان مشهودًا له بالعلم، وتنوع أفق التفكير بين الفقه والحديث والتاريخ، فضلاً عن اهتمامه بتوثيق المحن التي تعرض لها العلماء.

يمكن اعتبار “كتاب المحن” عملاً تاريخيًا يتناول الابتلاءات والمحن التي واجهت علماء الإسلام من مختلف المذاهب والمدارس الفكرية. ولا يقتصر الكتاب على سير الفقهاء فقط، بل يشمل أيضًا المتصوفة والمحدّثين الذين تعرضوا لمضايقات من قبل السلطة السياسية بسبب آرائهم ومواقفهم الفكرية. يوثق الكتاب ما تعرض له هؤلاء العلماء من اضطهاد وسجن ونفي وترويع وتغريب وأحيانًا قتل، سواء بسبب اختلافهم الفكري مع السلطة الحاكمة، أو نتيجة تبنيهم أفكارًا مغايرة لما كان سائدًا في أوساط العلماء الآخرين.

2

بهذا المعنى، يعدّ “كتاب المحن” مصدرًا مهمًا من مصادر دراسة العلاقة بين السلطة والعلماء في العالم الإسلامي. يكشف النقاب عن ممارسات القمع الفكري والسياسي التي اتبعتها بعض الأنظمة الحاكمة في التعامل مع المخالفين لها في الفكر والاعتقاد.

لذلك، يهتمّ الكتاب بعرض أبرز الخلافات الفكرية والدينية التي أثرت على المشهد السياسي في ذلك الإبان، حيث كان للخلفاء والولاة دور كبير في توجيه الحركة العلمية، خاصة ما اتصل منها بالمسائل العقائدية مثل قضية خلق القرآن، التي كانت من أبرز المحن التي تعرض لها العلماء. فقد جرت محاكمات شرسة ضد الذين رفضوا فكرة خلق القرآن، في فترة حكم العباسيين خلال خلافة المأمون (198–218 هـ). كان المأمون يدعّم فكرة أن القرآن مخلوق، وهي فكرة دعمتها فرقة المعتزلة، وعُرضت هذه العقيدة على العلماء والمحدثين، وأُجبروا على تبنيها، ومن رفض كان مصيره السجن والتعذيب. بيد أن العديد من هؤلاء العلماء، رغم تعرضهم للتعذيب أو النفي، لم يتراجعوا عن مواقفهم، وكان من أبرزهم أحمد بن حنبل، الذي يعد من أبرز العلماء الذين رفضوا الإذعان لمطالب الخليفة المأمون.

من ذلك أيضًا محنة الإمام مالك بن أنس، مؤسس المذهب المالكي، في قضية طلاق المكره. فقد أفتى الإمام مالك بعدم شرعية الطلاق تحت الإكراه. ووفقًا للفقه المالكي، لا يعد الطلاق باطلًا إذا وقع تحت الإكراه، بل يحتاج إلى شروط معينة حتى يكون نافذًا. جاءت هذه الفتوى بناءً على مبدأ حماية الحقوق وتفادي الظلم الذي قد ينجم عن الإكراه. ولما كان الخليفة العباسي المنصور (ت. 158 هـ / 775 م) حريصًا على استقرار حكمه وتعزيز سلطته، وكان يخشى من أي فتوى قد تزعزع استقرار الدولة، فقد اعتبر فتوى الإمام مالك تهديدًا سياسيًا، لأنه رأى فيها دعوة قد تضعف سلطته أو تؤثر على نظام الطلاق المتبع في الدولة. نتيجة لذلك، تعرض الإمام للتعذيب على يد السلطة، وفق ما أثبتته العديد من المصادر التاريخية، مثل كتاب “الرسالة” للإمام الشافعي و”تاريخ بغداد” للخطيب البغدادي، حيث تعرض الإمام مالك للضرب المبرح حتى خُلعت كتفُه.

كما تعرض الإمام الشافعي، مؤسس المذهب الشافعي، لمحنة سياسية عندما اتهم بالميل إلى الثورة العلوية ضد العباسيين. كانت هذه الاتهامات باطلة، لكنها قادته إلى السجن لفترة من الزمن، فقد “اتهم الإمام الشافعي بالميل إلى الثوار العلويين، فأُخذ إلى والي اليمن مقيدًا، ولكنه أثبت براءته بعد محنته، وكان صابرًا محتسبًا.”

ولم يقتصر “كتاب المحن” على توثيق المحن في المشرق فقط، بل شمل أيضًا محن العلماء في الغرب الإسلامي خلال فترة حكم الأغالبة والفاطميين. فقد كانت هذه الفترة مليئة بالاضطرابات السياسية والمذهبية، تعرض خلالها العلماء الذين عارضوا السياسات المذهبية للمحن والنفي، “وفي المغرب، تعرض علماء المالكية لمحن متتالية بسبب موقفهم من الدعوة الفاطمية… وقد نُفي العديد منهم أو قُتلوا بسبب مواقفهم الرافضة لهذه الدعوة.”

3

يروي أبو العرب التميمي أحداث “كتاب المحن” استنادًا إلى الشهادات والمصادر الموثوقة. كتابُه مرجعٌ تاريخي وثقافي وفكري هام يتناول فترة حاسمة في التاريخ الإسلامي، بوصفه لكل التحديات التي واجهها العلماء نتيجة الضغوط السياسية والفكرية كما أسلفت.

الصمود في وجه السلطة والحفاظ على المبادئ من أهم القيم التي تتجلى من مواقف العلماء.

لتلك المواقف عدة أوجه أجملها فيما يلي:

أولًا: التمسك بالعقيدة. من ذلك محنة خلق القرآن التي أشرت إليها سابقًا، برفض العلماء الانصياع لمطالب السلطة العباسية بتبني فكرة خلق القرآن التي دعمتها فرقة المعتزلة. فقد أصر العلماء على الحفاظ على معتقدهم القائل بأن القرآن كلام الله وهو غير مخلوق.

ثانيًا: المقاومة الفكرية ضد التسييس. كان العلماء الذين وثق أبو العرب لسيرهم -وفي كثير من الأحيان- ضحايا لتدخل السياسة في الشأن الديني. فقد كان بعض الخلفاء والحكام يسعون لتسخير الفقهاء والعلماء لدعم سياساتهم، وهو ما كان يرفضه العلماء. يعبر هذا الصمود عن التزام العلماء بواجبهم الأخلاقي في حماية الشريعة من أي تدخل سياسي، حتى لو أدى ذلك إلى تعريض حياتهم للخطر.

ثالثًا: الموقف ضد التبعية للسلطة. رفضَ بعضُ العلماء تبنّي أي موقف قد يُفهمُ منهُ على أنه موقف مُساند للسلطة، لأنهم كانوا يرون أن دورهم الأساسي هو توجيه الناس نحو الحقيقة الدينية بعيدًا عن شؤون السياسة.

4

يتضح من قراءة “كتاب المحن” أن العلاقة بين العلماء والسلطة كانت تدور أساسًا حول من له الحقّ في تملُّك السلطة التفسيرية للدين. فقد استخدم الفاعل السياسي الدين لتعزيز شرعيته، بينما كان العلماء يعتبرون أنفسهم الأوصياء على الحقيقة الدينية.

كانت العلاقة بين العلماء والسلطة السياسية معقدة وتتخللها صراعات حول الشرعية والتفسير الديني لقضايا الأمة. لم تكن السلطة التفسيرية مجرد قراءة للنصوص الدينية، بل كانت لها أيضًا القدرة على تشكيل الرأي العام وتوجيه المجتمع. لذلك، أسفرت هذه العلاقة المتوترة عن نتائج متنوعة، أبرزها ظهور حركات إصلاحية وانشقاقات دينية، مما أدى إلى تشكيل هويات جماعية جديدة أثرت بعمق على مسار التاريخ الإسلامي على مختلف الأصعدة.

يضاف إلى ذلك أن التداخل بين الديني والسياسي، والمتمثل في فرض توجهات دينية معينة وحماية العقيدة من التحريف السياسي، لم يجعل من العلاقة بين العلماء والسلطة في التاريخ الإسلامي علاقة خضوع، بل كانت -في كثير من الأحيان- علاقة تحدٍّ وصراع حول من له الحق في اكتساب الشرعية، أكانت سياسية أم فكرية.

قراءتي لكتاب “المحن” أوضحت لي أن الشرعية الفكرية جديرة بكل اعتبار.

ولا شكّ أن إعادة قراءة هذا الكتاب – اليوم – تحملُ عِبَرًا قيِّمة لعدة مقاصد وغايات.

لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق