للمتابعة اضغط هنا

التاريخ بين العلم والخرافة

0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف
تابعنا علي تليجرام

كان بيتنا، في حي برج مولاي عمر بمكناس، يطل على التواء سكة الحديد منذ خروج القطار من النفق حتى منعرج ورزيغة، وكنت دائما أتفرج على القطارات وهي تمر هناك كأفعى مترنحة، سواء أكانت تحمل المسافرين أم السلع. ومرة سألت أمي عن مكان ورزيغة هذه، ولماذا هي مشهورة دون أن تظهر للعين المجردة، فقالت إنها لا تظهر سوى في الليل من خلال أضواء المحطة الصغيرة والقرية الأصغر. ثم أضافت رحمها الله:

– يامات الاستعمار نزّل الله على النصارى واحد الرعدة حرقات التران ديالهم كامل، وكان سبحان الله عامر غير بالعسكر.

– وشحال مات فيهم؟

– قالوا شي ألف ولّا ألفين كافر، لهلا يرحم فيهم شي عظم.

جرى هذا الحوار بيننا في أحد أيام سنة 1965، وبعد مرور عشرات السنين، قرأت في مكتبة كلية الآداب بفاس، من باب القراءات الحرة خارج المقرر، عن حدث وقع في ورزيغة صيف 1945، لكن الحدث رواه التاريخ بطريقة مخالفة لما روته أمي.

يمكن اختصار ذلك في كون القطار كان يحمل عناصر من الجيش الفرنسي، راجعة من أوروبا بعد نهاية الحرب العالمية، وقد يكون فيهم مغاربة الكوم. كما كان يحمل عربات البنزين. لاحظ سائق القطار أن طفلا صغيرا علِق بعمود الكهرباء بحيث يمنع تماس اللاقط بالخيط الكهربائي، فتوقف لينزع جثة الطفل الذي كان يرغب في أخذ بيض من عش للطيور. ارتكب السائق خطأ في غمرة التسرع فلم يحسن جر حصارات القاطرة بشكل جيد، وبما أن الحدث وقع في منحدر خطير فإن القطار أخذ يتحرك إلى الوراء حتى وصل إلى سرعة خطيرة، فخرج عن السكة ثم انفجرت خزانات البنزين فقُتل الجنود وعددهم لا يتجاوز 228 فردا وجرح 125 آخرون. بين الحدث ورواية أمي عشرون سنة، تحولت خلالها حادثة عادية إلى خرافة انتقام إلهي.

التاريخ لا يؤمن بالتواتر الشفهي بسبب التضارب البشري في نقل الوقائع التاريخية، ولا يقبل إلا التدوين أو التسجيل الصوتي أو البصري (انطلاقا من منتصف القرن العشرين) وليتحقق تصديق الرواية الشفهية يجب ألا يكون هناك تباعد زمني كبير بين الحدث والرواية، كفارق مائة سنة مثلا، حيث يكون بعض الشهود لا يزالون على قيد الحياة، وإلا فإن طبيعة الرواة يجب أن تقترب من صفات الملائكة، ولا يشفع لهم الفحص والتمحيص في سِيَرهم.

ميْلُ البشر إلى الكذب والتضخيم والزيادة والنقص في الرواية غريزي ومعروف ومتداول، وتراثنا الثقافي يسخر من هذا الكذب، فنقول بالدارجة مثلا: “داروا من الحبة قبة” أما في عصرنا الحالي فإن التاريخ يُكْذَبُ عليه كل يوم بصنع خرافات يومية، تنتظر ساعات أو أياما قليلة ليتبين لك الحق، عبر الإنترنيت خاصة. وإذا كنا نستطيع تخليص التاريخ من الكذب الحديث، فإن الكذب القديم لا طاقة لنا عليه، لأنه يتحول إلى خرافات قادرة على الدفاع عن نفسها بمبررات شبه منطقية وهي مجرد اجتهادات عقلية تدور في حلقة مفرغة، تستشهد بأجزاء من الخرافة نفسها.

في هذا السياق، كانت عندنا في البيت رسوم تُشترى من الأسواق، تحكي عن الأنبياء والرسل والصالحين والمشاهير (عنترة بن شداد مثلا) ولفت انتباهي رسم لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه، يشق رأس الغول، فسألت أمي فأعطتني تفاصيل النزال الذي جرى بينهما من البداية إلى النهاية، وبقيتُ على ذلك الاعتقاد حتى نضج عقلي، فعرفت أنها مجرد خرافات شيعية شعبية كانت تريد أسطرة شخصية ابن عم الرسول.

إن قراءة التاريخ لا يمكن أن تكون صحيحة بالظن والتخمين والتقديس وإنما بالدليل العلمي الذي يمنع تحويل الحبة إلى قبة. وإذا وقفتَ أمام مفترق الطرق، فاقرأ جيدا علامات التشوير، علامة تدل على الخرافة وأخرى تدل على الحقيقة، وإذا كنت أعشى فأَلْبِسْ عينيك نظارتين، وإذا كنتَ أعمى فاسمع نبضَ الطريق بعقلك قبل قلبك، فإنك لن تخيب.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق