"الجميع يحبّ تودا".. فرجة سينمائية تكشف واقع فنّانات "العيطة" بالمغرب

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

بعيدا عن الاحتفاءات “الفلكلورية” المكرورة بـ”العيطة”، وخطاب البطولة الذي قلّما يصدّقه واقع عيش أبطالها، وبعيدا عن “التبرئة” الفجّة، يقدّم أحدث أفلام المخرج نبيل عيوش قصّة ذات تركيب حول مولوعة بالجانب الفني لـ”العيطة”، في ظلّ موانع واقع السوق “الترفيهيّ”، ونظرة مستفيدين منه أو مرتادين له لمؤدّيات هذا اللون الموسيقي والألوان التي في حكمه.

في فيلم “الجميع يحب تودا” يستمرّ اهتمام نبيل عيوش بجزء من واقع المجتمع المغربي ومعيشه في أماكن معتمة يكون “الغناء الشعبي” فيها محفزا لاستهلاك مشروباتها، ووقودا لتلبية تطلعات الجسد بعيدا عن كلّ قيد أو نهي، مع ما يعنيه ذلك من تواطؤ المرتادين، والمنظمين، والنُّدُل، والمغنيات أيضا، اللائي يتحمّلن اللمسات المخمورة.

هنا تبدو “تودا”، بطلة الفيلم التي تشخّصها نسرين الراضي، نشازا، تغنّي وترقص لكنها لا تقبل التحرّشات، ولو كانت جزءا من تواطؤات هذا العالم الليلي، التي من بينها النصب على السكارى، والقهقهة في وجه كلماتهم المتثاقلة، وضحية من ضحاياه أدّت الثمن اغتصابا جماعيا، تركها ذات ليل في غابة، وقاد وليدها إلى عالم الناس هذا، بعد سهرة رجالية توالت فيها جرّات الكمان، وكؤوس النبيذ الرخيص، والرقصات المحمومة بالرغبات غير البريئة، التي لا معنى لـ”لا” في قاموسها.

في هذا الفيلم أيضا تقابلٌ بين نوعين موسيقيّين هما “الشعبي” و”العيطة”، الأول الذي يَحضر بكلام بسيطِ لا همّ له إلا الفرح البسيط “النّشاط”، ومرافقة الرقص، وإسكات صخب الحياة، بينما يقدّم الثاني كلمات ذات شجن منبثق من أعماق وجود الإنسان، وتموقف سياسي حتى.

هذا التقابل تعيشه “تودا”، التي ترى في أماكنها المعتادة بمدينتها الصغيرة مقبرة لتطلّعها لغناء “العيطة”، التي تتعلّمها بالسماع عبر أشرطة تسجّلها صديقةٌ لها ألفَت سذاجَتُها الاستغلالَ، والعيش في أحلام الآخرين مهما صغرت.

هكذا تحضر مدينة الدار البيضاء، الشاسعة أفقا لتحقيق الحلم، موئلا لإبراز الإبداع، بعيدا عن ملاهي “الجرّة”، والأيادي المخمورة، ومواسم القرى المتوارية خلف الجبال.

لكن ولو اختلفت المدن وتطاول بنيانها، يبقى المراد من الغانية واحدا، ويبقى جزاء رفض الانصياع له الإبعاد، وجزاء مقاومته الطرد.

في هذا الفيلم لا يحضر السرد البسيط فقط، بل تحضر مشاهد تستفزّ التأمل والمشاعر: شجَى “العيطة” الذي يتملّك المؤدية، رغم ضرورات العمل ونغمه “المرح”، بعد ألم فراق طفلها بحثا عن الاعتراف، وصدى همهماته الممتنعة خلف الهاتف؛ هو الأبكم الذي لا قدرة له على التعبير صوتا، ولا قدرة لأمّه على جوابه إلا بكاء يواري الكلمات المكلومة.

كما تحضر في الشريط تراكمات الثقافة الإنسانية، وتضارب العوالم ونداءاتها، وتقاطع وتنافر النموذج والمعيش حينَ لقاء نداء الصلاة وتمارين “العيطة”، ومحاكاة الكلامِ المقام، أو في نواد ليلية يطلّ زجاج بناياتها الفارهة على “روح” البيضاء، مسجدها الذي على الماء.

في الفيلم تبدو أيضا رسائل تكاد تكون مباشرة: مستلزمات “الصعود” أو “الهبوط” مالا أو مقاما بين “الشيخة”، التي تسبق “تودا” في “عروض” لأن لا شأن لها بحرمة جسدِها، وعينُها على الأوراق المالية التي يُمطرها إياها الغرباء، أو في دلالة المصعد الذي يُقلّ “البطلة” إلى طابق في القمّة، ثم ما يلبث أن يهوي بها بعد رفضها الاستمرار في “العرض” بعدما أدركت أنها جزء من المعروضات، ولو اختلف تأثيث المشهد وثمن بذلات مرتاديه.

في “الجميع يحب تودا” الحقيقة أن “الجميع” يحب من ينشّط ليله دون اعتراض، جسدا يغنّي ويرقص ويصمت عن النزوات التي لم تستأذنه، ولا أحد يحبّ “تودا” لنفسها، كما هي، أحلاما وفنّا وإنسانة، إلا من شعارات من بينها شعار ملهى “راق” قدّمها مقدّمه بالقول: “الكل يحب تودا”، لتعي بعدَ كلمات مخمورة من مدخّن “سيجار” فاخر أنَّ تمثّلَه لها لا يختلف عن تمثّل المخمور بالنبيذ الرخيص، ولا عزاء لـ”العيوط” وصدى شجاها المتوارث عبر تراكم ذاكرات وذائقاتها، ومَعايِش وصدحها، وعبر تمرّدات وتضحيات.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق