تُعتبر اللغة الصينية (الماندارين) أصعب اللغات في العالم، بسبب الطريقة المعقدة لكتابتها وقراءتها، لأن رمزا لغويا واحدا يمكن أن يتضمن أكثر من كلمة، مما يتطلب زمنا طويلا لفهم العلاقات المعقدة داخل الرموز والروابط خارجها. لكن، ويا للعجب، إذا لم ترغب في القراءة والكتابة واقتصرتَ على التعلم الشفهي، تصبح الصينية من أسهل اللغات تواصلا، لأن الماندارين هي لغة الأدب والصحافة والعلم ولغة التواصل الاجتماعي اليومي أيضا، وهذا ما تفتقده اللغة العربية.
إذا افترضنا أن أجنبيا أراد تعلّمَ اللغة العربية بالاحتكاك مع “العرب” فإنه لن ينجح في ذلك أبدا، لأنها لا تُستعمل في الحياة اليومية للناس. أما إذا أراد أن يتعلم لغة عربية محلية (دارجة/عامية) فإنه يستطيع ذلك بسهولة. وقد تعرفت على أمريكية جاءت إلى المغرب في إطار بعثة السلام، وكانت تدرِّس الإنجليزية في معهد المكفوفين بمكناس، وكانت تسكن بحي شعبي قريبا من هذا المعهد، وما مضت سنتان حتى أبهرتني بدارجتها المغربية السليمة وكأنها ولدت في المغرب.
والأمر نفسه ينطبق على جميع اللغات العربية المحلية، ويُنصح الأجانبُ بتعلم المصرية لأنها مفهومة في أغلب البلدان العربية. فلماذا إذن لا يتحقق تعلم العربية الفصيحة بالاحتكاك مع الشعوب العربية؟
تعتبر اللغة العربية ثاني أصعب لغة من حيث ساعات التعلم، فهي تحتاج إلى 2200 ساعة على الأقل لتعلم المستوى الأول للقراءة والكتابة، وليس مستوى الأدب والعلوم. في حين تتطلب اللغة الإنجليزية 600 ساعة فقط لنفس الهدف. وسبب صعوبتها العربية يرجع بالأساس لبنائها المعقد، والذي يجعل الحروف غير مستقلة، وبسبب ظاهرة الإعراب الضرورية لفهم تعلق الأفعال والأسماء والحروف بعضها ببعض. كما أنها تحتاج حتما إلى الشكل لفهمها وإلا فعلى المستعمل أن يخمن الطريقة الصحيحة للقراءة (بَرٌّ/بِر/بُر- يخشى اللهَ من عباده العلماءُ/يخشى اللهُ من عباده العلماءَ…).
احتُفل باللغة العربية قبل أيام، ودُبجت المقالات في عظمة هذه اللغة وجمالها وبلاغتها وقدراتها واتساع استعمالها وأحيانا تفضيلها على كل لغات العالم لأنها لغة شريفة تكلم بها الله تعالى في آخر كتاب إلى الخلق. لكن الحقيقة الفيلولوجية تتحفظ على الكثير مما قيل عنها. ذلك أن كل لغة حية تقتضي أن تتطور، في معجمها وتركيبها وآليات الربط بين عناصرها والاختصار والنحت واستيراد المعجم الأجنبي بشكله كما هو أو بإعرابه وغير ذلك من وسائل تطوير اللغات. وحين تبحث عن السبب الذي أحدث كل هذا التباعد بين العربية الفصيحة والعربيات المحلية، ستجد أن ضرورة التواصل السريع بين مستعملي هذه اللغات جعلتهم يحذفون حركة الحروف والكلمات ويغيرون ترتيب الجمل، فربحت الكثير من الوقت بين القول الفصيح والقول الدارج.
أعطي مثلا لذلك بجملتين تحملان المعنى نفسه:
– توصلت برسالة هذا الصباح من مصلحة الضرائب تطلب مني تصفية متأخرات سنتين وإلا فإنها ستطبق عليّ غرامة خمسة في المئة. فذهبت إلى المصلحة وطلبت مقابلة المدير فشرحت له أني مكتر ولست مالكا للبيت، فطلب مني شهادة سكنى حديثة وفواتير أداء الماء والكهرباء.
– جاني هاد الصبح إنذار ديال الضرائب باش نخلص عامين ديال التأخير، مشيت عند المدير وفسرت لو بللي أنا غير كاري ماشي شاري، قال لي نجيب شهادة السكنى والفاكتورا ت ديال الما والضو.
النتيجة هي أن الجملة الأولى تطلبت 42 كلمة و22 ثانية نطقا شفهيا، أما الجملة الموالية فتطلبت 31 كلمة و10 ثوان. هذا الفرق الذي لاحظناه يهم نصين قصيرين أما إذا قارنا بين نصين طويلين فإن الفارق في سرعة أداء الفصيحة والدارجة سيكون مهولا. هذا يعني أنه كلما اتسعت الهوة بين اللغة الأم ولغة الأدب والشعر والصحافة نقع في هذا التفاوت الكبير في سرعة أداء اللغة.
ما الحل إذن؟ إذا أردنا تسهيل اللغة على القارئ فيجب تصْعيب مهمة الكاتب وذلك بفرض شكل الحروف والكلمات، وإذا بدا الأمر مستحيلا فعلينا حذف الحركات في آخر الكلمات والاكتفاء بالجزم، وهو ما يطبقه المتكلمون شفهيا بالعربية الفصيحة. كما أنه يجب قبول المعجم الأجنبي من أجل إغناء اللغة واستعمال حروف جديدة لتجاوز أضحوكة القراءة العربية لها، مثل الفاء المثلثة والباء المثلثة والكاف فوقه سطر (لماذا نقول باناما وغوغل وسيارة فولفو وهونغ كونغ وكوبنهاغن؟).
لقد كنت أنتقد الصحفيين الذين يخطئون في المكتوب والمسموع والمرئي لكني أصبحت أعذرهم، لأن مدرسي العربية في الابتدائي والإعدادي والثانوي والجامعي أنفسهم يخطئون مثلهم، (“يقلبونها” دارجة في الغالب) ليس من قلة التكوين والمعرفة ولكن من صعوبة التقعيد الذي لا مثيل له في أي لغة في العالم. فهل نكون نحن أحسن من اليهود والإيرانيين واليونانيين والصينيين الذي احتفظوا باللغة التراثية ليستعملوا لغة حديثة، قريبة من اللغة العامية. ولنتوقف عن اعتبار عبقرية اللغة في معجمها ونحوها وبلاغتها في حد ذاتها ونؤمن أن أي لغة لا ترقى إلا بطريقة استعمال أهلها لها، في غياب أي اعتبارات غير لغوية.
0 تعليق