الصين تشهد ظهور مزيد من النماذج المجانية عالية الكفاءة وترفع حدة المنافسة مع أمريكا
"ديب سيك" نشرت معظم تفاصيل نموذجها وهو أمر لن تقدم عليه "أوبن إيه آي" أو "جوجل" حالياً
الشركة الصينية اعتمدت على أعمال سابقة لتطوير نموذجها ومنها "لاما" المقدم من "ميتا"
المستقبل قد لا يكون من نصيب الأكثر إنفاقاً بل من يجرؤ على مشاركة ابتكاراته مع العالم
قبل عامين، عندما أطلقت "أوبن إيه آي" (OpenAI) نموذج "تشات جي بي تي"، أكد الرئيس التنفيذي للشركة، سام ألتمان، أن نجاح شركته يعتمد على 3 عناصر رئيسية، وهي: الرقائق، والبيانات، والمال. فكلما ضُخت مزيد من هذه العناصر في شركته، تماماً كما يُلقى الفحم في فرن قطار بخاري، زادت قوة الذكاء الاصطناعي الذي تنتجه. لكن شركة صينية صغيرة تُدعى "ديب سيك"(DeepSeek) جاءت لتدحض هذه الفكرة، بعدما أطلقت نموذجاً للذكاء الاصطناعي بنفس الكفاءة لكن بتكلفة أقل بكثير. ومع ذلك، فإن هذه القصة التي تبدو كمعركة "داوود وجالوت" لا تقتصر على شركة واحدة، أو حتى على الصين وحدها.
تهديد متزايد لنماذج "أوبن إيه آي"
على مستوى العالم، يجري تطوير نماذج ذكاء اصطناعي مفتوحة المصدر مماثلة، ومستعدة للاستحواذ على حصة سوقية من أعمال ألتمان عبر تقديم أنظمة أرخص بكثير أو حتى مجانية تماماً. وهذا يشكل تهديداً مقلقاً لشركات مثل "أوبن إيه آي" و"أنثروبيك" (Anthropic)، اللتين تستند إستراتيجيتهما الربحية إلى بيع الوصول إلى نموذج الذكاء الاصطناعي الأساسي بأسعار مرتفعة. ("جوجل" التابعة لـ"ألفابت" و"مايكروسوفت" تمتلكان على الأقل أعمال حوسبة سحابية وبرمجيات يمكن الاعتماد عليها في الربحية). ورغم أن النماذج المتاحة للعامة، مثل "ديب سيك"، قد لا تتمكن من فرض سيطرتها الكاملة على السوق في النهاية، إلا أنها قد تستحوذ على حصة كبيرة وغير مريحة، وتحقق ما لم ينجح فيه ألتمان من حيث الشفافية والتعاون.
يرى غاري ماركوس، الأستاذ الفخري في جامعة نيويورك، الذي طالما انتقد افتقار "أوبن إيه آي" للشفافية وحذر من انهيار سوق الذكاء الاصطناعي، أن "البحث الذي نشرته (ديب سيك) حول نموذجها الجديد للذكاء الاصطناعي المعروف باسم آر 1 (R1) كان أكثر شفافية من أي شيء رأيته من (أوبن إيه آي) منذ إطلاق نموذج جي بي تي-3 (GPT-3)".
ثورة الذكاء الاصطناعي في الصين
هذا النهج المنفتح يشكل جزءاً من التحول الذي تشهده الصين. فقد تأسست "ديب سيك" على يد رجل الأعمال ليانغ وينفينغ، وهو مستثمر في صناديق التحوط، حيث جمع فريقاً يضم موظفيه السابقين وعشرات الحاصلين على الدكتوراه من الجامعات الصينية، سعياً لتطوير ذكاء اصطناعي بمستوى يضاهي الذكاء البشري. ولتحقيق ذلك، استخدم 10 آلاف رقاقة حصل عليها من شركة "إنفيديا" (Nvidia) في 2021 (قبل فرض الولايات المتحدة قيوداً على صادرات الرقائق)، ويُقال إنه استخدم 1/50 فقط من قوة الحوسبة التي يعتمد عليها عمالقة التكنولوجيا مثل "جوجل" و"مايكروسوفت" و"أوبن إيه آي".
في هذا الأسبوع، مع إعلان الشركات الكبرى عن أرباحها وسعيها لتبرير نفقاتها الرأسمالية الهائلة على الذكاء الاصطناعي أمام المستثمرين، فإنها ستعمل جاهدة على بث بعض الأمل في نفوسهم. فبعدما أبدت مخاوفها تجاه العوائد المتناقصة لما يُعرف بـ"قوانين التوسع"، التي استند إليها ألتمان في إستراتيجيته القائمة على مبدأ "الأكثر أفضل"، وأصبح لديها الآن مخطط لتجاوز هذه المتطلبات بفضل "ديب سيك".
الشفافية مقابل التكتم
نشرت "ديب سيك" معظم تفاصيل نموذجها "آر 1" على الإنترنت، وهو أمر لن تقدم عليه "أوبن إيه آي" أو "جوجل" في الوقت الحالي. ويكمن إنجاز "ديب سيك" في تطوير نهج جديد لما يُعرف بـ"نمذجة المكافآت"، وفقاً لأحد ملخصات النتائج. وفي هذا السياق، يعمل مهندسو "ميتا بلاتفورمز" (Meta Platforms) بالفعل على دراسة هذه التفاصيل، ومن المحتمل أن نشهد في الأسابيع والأشهر المقبلة إطلاق مارك زوكربيرغ وزملائه من عمالقة التكنولوجيا الآخرين لنماذج ذكاء اصطناعي أكثر كفاءة.
لن يكون هذا الأمر سهلا، إذ إن "ديب سيك" لا تُعد "مفتوحة المصدر" من الناحية التقنية، وفقاً لـ"مبادرة المصدر المفتوح" (OSI)، وهي هيئة عالمية مسؤولة عن اعتماد تراخيص البرمجيات. فقد أخبرني متحدث باسم المبادرة"، أن "الشركة لا توفر شفرة المصدر المستخدمة في معالجة البيانات وفرزها وتدريب النموذج، كما لم تكشف عن تفاصيل البيانات المستخدمة في التدريب. لذا، فإن أي جهة ترغب في إعادة بناء هذا النموذج ستضطر للبدء من الصفر، اعتماداً فقط على الورقة البحثية التي نشرتها الشركة".
مع ذلك، فإن "ديب سيك" تعتمد على ما يُعرف بـ"النظام مفتوح المصدر للمطورين والباحثين"، الذي يسمح للآخرين بالاطلاع على المعلمات الأساسية للنموذج ونسخها وتحسينها، على عكس "أوبن إيه آي" التي تتبع نموذج "الصندوق الأسود"، حيث تبقي تفاصيل نماذجها مغلقة تماماً.
ذكاء اصطناعي مفتوح المصدر في الصين
اعتمدت "ديب سيك" على أعمال سابقة في تطوير نموذجها، فقد صرحت الشركة بأن ذكاءها الاصطناعي تم بناؤه بالاستناد إلى نموذج "لاما" (Llama) المقدم من "ميتا" بشكل مفتوح المصدر للمطورين والباحثين. في الوقت نفسه، تحقق "مايكروسوفت" فيما إذا كانت "ديب سيك" قد استخدمت تقنيات "أوبن إيه آي" في تطوير نموذجها، دون الحصول على إذن رسمي، وهو أمر قد يثير الذعر في سان فرانسيسكو. (لكن من الصعب إظهار التعاطف مع شركة "أوبن إيه آي" التي استغلت الأعمال الفنية المحمية بحقوق الطبع والنشر لآلاف الفنانين والكتاب لتحقيق مكاسبها التجارية).
لم تعد نماذج الذكاء الاصطناعي المجانية عالية الكفاءة مقتصرة على "ديب سيك"، إذ تشهد الصين ظهور مزيد من النماذج المفتوحة المصدر. من بين هذه النماذج، "واي يو إي"(YuE)، القادر على إنتاج مقاطع موسيقى بوب كاملة تتضمن كلمات شجية، إضافة إلى نموذج "كيوين" (Qwen)، التابع لـ"علي بابا غروب هولدينغ "(Alibaba Group Holding)، الذي يُستخدم في تطوير وكلاء ذكاء اصطناعي.
اتجهت الصين نحو تطوير نماذج مفتوحة المصدر في الأعوام الأخيرة، مدفوعة بالقيود الأمريكية على التصدير، والدعم الحكومي، وتأثير نموذج "لاما" مفتوح المصدر للمطورين والباحثين، الذي قامت عديد من شركات التكنولوجيا الصينية بتحسينه لتطوير تطبيقاتها الخاصة، وفقاً لمجلة "كمبيوتر ويكلي" (Computer Weekly).
خطر متزايد يواجه عمالقة وادي السيليكون
بالنسبة لعمالقة وادي السيليكون الراسخين، لا يقتصر التهديد الحقيقي على الصين فحسب، بل يمتد للدور الذي قد تؤديه شركات التكنولوجيا الصينية في تعزيز زخم الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر في أجزاء أخرى من العالم، مثل فرنسا، التي تُعد موطناً لشركات واعدة في هذا المجال مثل "ميسترال إيه آي" (Mistral AI) و"هاجينغ فيس" (Hugging Face)، وكذلك في الولايات المتحدة، حيث أسهمت المجموعة البحثية "إليوثير إيه آي" (EleutherAI) في تطوير نماذج مثل "جي بي تي-جيه" (GPT-J) و"جي بي تي-نيوكس" (GPT-NeoX).
بالطبع، لا يخلو الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر من الجوانب السلبية، وأبرزها إمكانية إساءة استخدامه من قبل الجهات الفاعلة السيئة. وعلى الرغم من أن النموذج الجديد لـ"ديب سيك" قد نجح في حل مشكلة التكلفة، إلا أنه لم يتمكن من التغلب على مشكلة الهلوسة. تنتشر عديد من الأمثلة على وسائل التواصل الاجتماعي لمستخدمين تمكنوا من اختراق القيود المفروضة على نموذج "آر 1"، ما سمح لهم بتجاوز المرشحات التي تتماشى مع سياسات الحزب الشيوعي الصيني. ورغم أن تكلفة تطوير النموذج كانت منخفضة، إلا أن تشغيله لا يزال مكلفاً نسبياً، وفقاً لما أشار إليه ماركوس.
مستقبل الذكاء الاصطناعي بين الاحتكار والانفتاح
ومع ذلك، تواصل "ديب سيك" تعزيز مصداقية الذكاء الاصطناعي مفتوح المصدر بين مطوري البرمجيات، حيث يستعرض المبرمجون على منصات مثل "إكس" (X) تجاربهم في تطوير تطبيقات باستخدام منصتها المجانية. فقد قال أحدهم إنه استخدمها لاستنساخ محرك البحث القائم على الذكاء الاصطناعي "بيربلكستي" (Perplexity) دون الحاجة إلى كتابة أي كود، بينما أوضح مطور آخر أنه استخدم نموذج "آر 1" لإنشاء تطبيق يتيح طرح أسئلة حول أي ملف "بي دي إف" (PDF).
أصبحت أعمال "أوبن إيه آي" لتطوير النماذج الأساسية سلعية. وتكمن الإمكانات الاقتصادية الحقيقية في الشركات التي تبتكر منتجاتها بالاعتماد على هذه البنية التحتية، أو بالاستفادة من منصات مجانية مثل "ديب سيك".
هنا تكمن المفارقة. فعندما انطلقت "أوبن إيه آي" في 2015، تعهدت بـ"التعاون المفتوح" ومشاركة براءات اختراعها مع العالم. إلا أنها، في سعيها المحموم لتطوير ذكاء اصطناعي يضاهي الذكاء البشري، بدأت شيئاً فشيئاً تتحول إلى شيء كانت تسعى لمحاربته، ألا وهو عملاق تكنولوجي غامض متعطش للمال، لتجد نفسها اليوم في مواجهة تحدٍ حقيقي من الذكاء الاصطناعي المفتوح المصدر.
أقنع ألتمان العالم بأن إنشاء ذكاء اصطناعي قوي يتطلب موارد هائلة، لكنه يدرك الآن أن موقعه الحصين ليس بالقوة التي تصورها. فقد لا يكون المستقبل من نصيب الأكثر إنفاقاً، بل لمن يجرؤ على مشاركة ابتكاراته مع العالم.
خاص بـ"بلومبرغ"
0 تعليق