قالت آية يحيى، نائب رئيس التحرير التنفيذي لمكتب المستقل، إن سماح إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للمؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي بحضور المؤتمرات الصحافية لتغطية نشاطات البيت الأبيض يطرح للنقاش مسألة الدور المتصاعد لوسائل الإعلام غير التقليدية.
واستعرضت آية، في مقال معنون بـ”فرص ومخاطر دمج مؤثري التواصل الاجتماعي في الإعلام التقليدي منشور من قبل مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، فرص ومخاطر الاعتماد المفرط على المؤثرين، مبرزة أن هذا المعطى قد يؤدي إلى تراجع جودة المحتوى وفقدان الهوية الصحافية التقليدية.
وقدمت الباحثة ذاتها سيناريوهين لهذا المعطى أحدهما متفائل والآخر متشائم، مشددة على أن التحدي الأكبر الذي يواجه الإعلام التقليدي فيما يتعلق بدمج مؤثري وسائل التواصل الاجتماعي هو كيفية تحقيق التوازن بين الجودة الصحافية والقيم المهنية من جهة، ومتطلبات الجمهور الرقمي من جهة أخرى.
نص المقال:
قررت إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في 29 يناير 2025، السماح للمؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي بحضور المؤتمرات الصحافية لتغطية نشاطات البيت الأبيض؛ وهو ما يطرح للنقاش مسألة الدور المتصاعد لوسائل الإعلام غير التقليدية، بما في ذلك مؤثرو وسائل التواصل الاجتماعي والمدونون ومقدمو البودكاست وغيرهم.
وفي المقابل، تواجه وسائل الإعلام التقليدية، منذ ثورة الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات وما تبعها من انتشار واسع لوسائل الإعلام الرقمية، تحديات وجودية، حيث إن عدد متابعي الصحف المطبوعة والقنوات التلفزيونية في تراجع ملحوظ بمرور السنوات؛ ما أثر بشكل كبير في عائداتها الإعلانية وأرباحها التشغيلية. ووفقا لتقرير “الأخبار الرقمية 2024” الصادر عن مؤسسة “رويترز” للصحافة، انخفض معدل اعتماد الجمهور على الصحف التقليدية كمصدر للأخبار إلى 22 في المائة من إجمالي مصادر الأخبار، بانخفاض 10 في المائة مقارنة بعام 2018. بينما أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة محتوى الفيديو الإخباري القصير، المصدر الرئيسي للمعلومات بالنسبة للأجيال الشابة؛ مما يعكس تحولا جوهريا في عادات استهلاك الأخبار.
ودفع هذا المشهد الإعلامي الجديد وسائل الإعلام التقليدية إلى التفكير في أساليب مبتكرة لجذب الجمهور واستعادة هيمنتها على المشهد الإعلامي؛ ومن بينها دمج مؤثري وسائل التواصل الاجتماعي في وسائل الإعلام التقليدية، بعد أن تزايد دورهم في الفترة الأخيرة. فوفقا لاستطلاع رأي أجرته (Statista) في عام 2023 حول مدى ثقة جيل الألفية حول العالم في توصيات المنتجات أو العلامات التجارية التي يقدمها مؤثرو وسائل التواصل الاجتماعي في جميع أنحاء العالم، قال 36 في المائة من المُستطلعة آراؤهم إن توصيات المؤثرين أكثر موثوقية مقارنة بالإعلانات التقليدية؛ فيما أشار تقرير لمركز “بيو” للأبحاث، في نونبر 2024، إلى أن نحو واحد من كل خمسة أمريكيين يحصلون على أخبارهم بانتظام من المؤثرين الرقميين الذين من المُرجح أن يتم العثور عليهم على منصة “إكس” (X)، و77 في المائة من هؤلاء المؤثرين ليس لديهم انتماءات أو خلفيات مع مؤسسة إعلامية، ويركز غالبيتهم على موضوعات السياسة والانتخابات والقضايا الاجتماعية والأحداث الدولية.
المؤثرون وصناعة الإعلام
يؤدي مؤثرو وسائل التواصل الاجتماعي دورا حيويا ومتزايد الأهمية في صناعة الإعلام، في ظل قدرتهم على تقديم محتوى شخصي ومبسط يُلبي احتياجات فئات محددة من الجمهور الذي يميل أغلبه إلى متابعة المحتوى الذي يقدمه أشخاص يتواصلون معهم بشكل شخصي ويشعرون بقربهم. وهذا ما يجعل منصات مثل “تيك توك” و”إنستغرام” جذابة بشكل خاص؛ لأنها تقدم محتوى سريعا وشخصيا يعكس حياة وتجارب المؤثرين. فعلى سبيل المثال، يقدم المؤثرون في مجالات الصحة واللياقة البدنية معلومات مرتبطة بنمط حياة صحي؛ ما يجعلهم مرجعا أساسيا لمتابعيهم. بالمثل، يؤدي المؤثرون في المجال السياسي دورا مهما في تبسيط القضايا السياسية المعقدة لجمهور قد لا تكون لديه خلفية سياسية عميقة.
ويعزز دور المؤثرين في صناعة الإعلام مجموعة من العوامل، أبرزها ما يلي.
1ـ سهولة الوصول: تُقدم وسائل التواصل الاجتماعي الأخبار بشكل أسرع وفي صيغ مختصرة؛ مما يتناسب مع نمط الحياة السريع للمستخدمين.
2ـ التفاعل: يتمكن المستخدمون من التفاعل مباشرة مع الأخبار والمشاركة في النقاشات؛ مما يعزز إحساسهم بالمشاركة والتأثير.
3ـ الجاذبية البصرية: يكون المحتوى الرقمي غالبا مدعما بالصور والفيديوهات الجذابة التي تجذب انتباه الجمهور بشكل أكبر من النصوص الطويلة.
اعتماد على المؤثرين
بدأت ظاهرة اعتماد الإعلام التقليدي على المؤثرين تبرز بوضوح منذ منتصف العقد الماضي، خاصة مع الانفجار الكبير في استخدام وسائل التواصل الاجتماعي. وكانت أولى المبادرات التي جذبت الأنظار من قِبل صحيفة “واشنطن بوست” الأمريكية في عام 2017، عندما أطلقت حملة تعاون مع مؤثري “إنستغرام” لتقديم محتوى خبري موجّه إلى جيل الألفية. وجاءت هذه المبادرة كرد فعل للتراجع الكبير في عدد قراء الصحف التقليدية، والرغبة في الوصول إلى جمهور جديد يعتمد بشكل متزايد على المنصات الرقمية.
وفي عام 2019، اتخذت شبكة “سي. إن. إن” الإخبارية خطوة مشابهة، حيث أطلقت برنامجا قصيرا عبر “تيك توك” بالتعاون مع مؤثرين مشهورين لتقديم تقارير إخبارية بطريقة مختصرة وجذابة تناسب طبيعة المحتوى الشائع على هذه المنصة. ولم تقتصر هذه المحاولات على الإعلام الغربي فقط؛ ففي العالم العربي وظّفت قناة “العربية” مثلا عددا من المؤثرين للمساهمة في إنتاج محتوى رقمي يركز على التحليلات الإخبارية.
ويميز هذه المبادرات قدرتها على دمج أسلوب المؤثرين الشخصي مع المعايير الصحافية التقليدية. فعلى سبيل المثال، في تجربة “واشنطن بوست”، كان المؤثرون يعملون عن كثب مع فرق التحرير لضمان أن المحتوى يلتزم بالدقة والحيادية المطلوبة. وقد ساعدت هذه الشراكة على جذب جمهور جديد دون التضحية بالقيم الأساسية للصحافة. ومع ذلك، تواجه هذه المبادرات تحديات عديدة، حيث تشير بعض الدراسات إلى أن اعتماد وسائل الإعلام التقليدية على المؤثرين قد يؤدي إلى تراجع جودة المحتوى المقدم، إذ تختلف معايير النجاح في هذه المنصات عن تلك المعتمدة في وسائل الإعلام التقليدية؛ مما قد يؤثر سلبا في جودة هذا المحتوى.
فرص ومخاطر
يبدو مستقبل اعتماد وسائل الإعلام التقليدية على المؤثرين واعدا إذا تم تبنيه بطريقة استراتيجية؛ فالتجارب الناجحة تثبت أن الجمع بين الأصالة الصحافية وبين الإبداع الرقمي يمكن أن يخلق نموذجا جديدا للإعلام يتماشى مع تطلعات الجمهور المعاصر. وهذا النهج قد يكون حجر الأساس لإعادة بناء الثقة بين وسائل الإعلام التقليدية والجمهور، خاصة في عصر قد تهيمن فيه الأخبار المزيفة والمعلومات المغلوطة على المشهد الرقمي؛ بيد أن اعتماد الإعلام التقليدي على المؤثرين ربما يحمل فرصا ومخاطر.
وتتمثل أهم الفرص في مدى نجاح الإعلام التقليدي في التكيف مع متطلبات العصر الرقمي مع الحفاظ على القيم الصحافية الأصيلة، من خلال إنشاء نموذج هجين يجمع بين التحليل العميق والجاذبية البصرية التي تتماشى مع تطلعات الجمهور. وتُعد تجربة “بي بي سي”، عبر تقديم سلسلة وثائقية على منصة “نتفليكس”، مثالا بارزا على كيفية استخدام وسائل الإعلام التقليدية للتكنولوجيا الرقمية لجذب جمهور جديد. وأثبتت هذه التجربة أن الجمع بين الجودة الصحافية والإبداع في تقديم المحتوى يمكن أن يسهم في إعادة تعريف العلاقة بين الجمهور ووسائل الإعلام. إضافة إلى ذلك، قد يؤدي تبني التكنولوجيا، مثل الذكاء الاصطناعي، إلى تحسين كفاءة عمليات الإنتاج الصحافي وتقديم محتوى مخصص لكل مستخدم بناء على اهتماماته. ويتيح هذا النهج للمؤسسات الإعلامية استعادة جزء من الجمهور الذي انجذب نحو منصات التواصل الاجتماعي.
في المقابل، قد يؤدي الاعتماد المفرط على المؤثرين دون وضع معايير واضحة إلى تراجع جودة المحتوى وفقدان الهوية الصحفية التقليدية. فعلى سبيل المثال، فإن تجربة بعض الصحف الكبرى في أوروبا والولايات المتحدة، التي اعتمدت على مؤثرين لتقديم تقارير إخبارية، أثارت جدلا واسعا بعد نشر تقارير غير دقيقة أثرت في مصداقيتها.
ويتوقف نجاح نهج الاستعانة بالمؤثرين في وسائل الإعلام التقليدية على عوامل عديدة؛ أبرزها ما يلي:
1ـ التفاعل مع الجمهور: يعتمد نجاح المؤثرين بشكل كبير على قدرتهم على خلق تفاعل حقيقي مع متابعيهم؛ ومن ثم فإن تمكُن المؤثر من دمج الرسالة الصحافية مع أسلوبه الشخصي قد يسهم في تعزيز الثقة في وسائل الإعلام التقليدية.
2ـ الالتزام بالمصداقية: يحتاج التعاون بين الإعلام التقليدي والمؤثرين إلى معايير واضحة تضمن الالتزام بالمصداقية. وقد ظهر هذا التحدي جليا في تجربة صحيفة “الغارديان” البريطانية، التي واجهت انتقادات بعد أن تعاونت مع مؤثرين لم يلتزموا تماما بالمعايير الصحافية.
3ـ التكيف مع طبيعة المنصات: يُعد المحتوى الناجح هو الذي يتلاءم مع طبيعة المنصة المستخدمة. فمثلا، المحتوى الذي ينجح على “تيك توك” يجب أن يكون مختصرا وإبداعيا، بينما المحتوى على “يوتيوب” قد يحتاج إلى تفاصيل أكثر وتحليل أعمق.
سيناريوهان
يواجه الإعلام التقليدي مرحلة تحول مفصلية في ظل هيمنة الإعلام الرقمي والمحتوى المقدم عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ وهو ما يزيد الضغط عليه لإعادة النظر في استراتيجياته وتكييف نماذج عمله مع متطلبات العصر الرقمي. ويمكن في هذا الصدد الإشارة إلى سيناريوهين هما:
1ـ السيناريو المتفائل: يتمثل في نجاح المؤسسات الإعلامية التقليدية في الاستفادة من مزايا الإعلام الرقمي دون التفريط في مبادئ الصحافة المهنية. فقد نشهد ظهور منصات هجينة تقدم محتوى يجمع بين التفاعل الفوري عبر وسائل التواصل الاجتماعي والتحليل العميق المرتبط بالإعلام التقليدي. وقد تستخدم هذه المنصات الذكاء الاصطناعي لتحليل اهتمامات الجمهور وإعداد تقارير مخصصة؛ ما يسهم في استعادة الثقة وتعزيز قاعدة المتابعين.
2ـ السيناريو المتشائم: هو استمرار هيمنة وسائل التواصل الاجتماعي والمؤثرين على حساب الإعلام التقليدي، حيث إن فشل المؤسسات التقليدية في التكيف مع متغيرات السوق وعدم الاستثمار في بناء قدرات رقمية مبتكرة قد يؤدي إلى تقلص كبير في حضورها وتأثيرها. ولا يقتصر الفشل هنا على فقدان الجمهور فقط؛ بل يمتد إلى تآكل الثقة التي بُنيت على مدار عقود بين وسائل الإعلام التقليدية والمجتمع، وهو ما قد يؤدي في النهاية إلى إغلاق العديد من المؤسسات الإعلامية التقليدية أو تقليص عملياتها بشكل كبير؛ ما يفتح المجال أكثر لسيطرة المنصات الرقمية.
خلاصة القول إن التحدي الأكبر الذي يواجه الإعلام التقليدي فيما يتعلق بدمج مؤثري وسائل التواصل الاجتماعي هو كيفية تحقيق التوازن بين الجودة الصحافية والقيم المهنية من جهة، ومتطلبات الجمهور الرقمي من جهة أخرى. ويتطلب التغلب على هذا التحدي رؤية استراتيجية تستند إلى الابتكار الرقمي والجاذبية التي تتطلبها المنصات الحديثة مع الالتزام بالقيم الصحفية التي تشكل جوهر الإعلام التقليدي. كما أن تبني التقنيات المتقدمة، مثل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات، قد يمنح المؤسسات الإعلامية التقليدية ميزة تنافسية تمكنها من تقديم محتوى مخصص وملائم للجمهور. كما يمكن للمؤسسات الإعلامية التقليدية أيضا استهداف فئات الشباب عبر أدوات أكثر إبداعا. وفي هذا السياق، قد تصبح التجارب الإعلامية المغامرة باستخدام تقنيات مثل “الواقع المعزز” و”الواقع الافتراضي” جزءا من استراتيجيات الإعلام التقليدي، في محاولة لمنافسة المحتوى الرقمي الجذاب.
0 تعليق