الباحثة والمترجمة دونيز ماسون .. إشراقة فكرية للأيقونة "سيدة مراكش"

هسبيرس 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

ما الذي يجعل دونيز ماسون (Denise Masson)، الباحثة والمترجمة، رمزًا للإلهام ومثارًا للتساؤل؟ أهو شغفها بالثقافة العربية والإسلامية الذي قادها للإقامة لعقود طويلة في مراكش، أم ترجمتها للقرآن الكريم التي تجاوزت حُدود اللغة لتنفذ إلى رُوح النّص وجمالياته؟ كيف لشخصية أوروبية أن تتعمّقَ في جوهر الثقافة الإسلامية، مترجمةً القرآن برؤية ملؤها التقدير لجلال بلاغته؟ وكيف لامرأة قضت ستين عامًا في قلب مراكش أن تتحوّل إلى أيقونة للحوار بين الأديان وجسرا للتبادل الثقافي؟

في ظلال رياضها العريق، نسجتْ ماسون حوارًا تخطّى الحدود الثقافية والدينية.

اشتهرت دونيز ماسون، المعروفة بلقب “سيدة مراكش”، بمكانتها عالمةً متخصصة في الدراسات الشرقية؛ وُلدت في الخامس من غشت عام 1901 في باريس، وأظهرت منذ سنواتها الأولى شغفًا استثنائيًا بالثقافات الشرقية، فتعمّقت في دراسة اللغة العربية والفكر الإسلامي، وأسهمت إسهاماً ملموساً في الحقل الثقافي بفضل التزامها الفكري والروحي والإنساني.

اقتنت دونيز ماسون سنة 1938، وبمساعدة من والديها، رياضًا في مراكش بحي باب دكالة داخل أسوار المدينة القديمة، حيث استقرت فيه حتى وفاتها. هناك، أسست مركزًا للدراسات الإسلامية، مستقطبة باحثين شبابًا متخصصين في الإسلاميات والتاريخ. وفي الوقت نفسه، انخرطت في مشروع لتدريب مساعدات اجتماعيات مؤهلات للتكيف مع الثقافة الإسلامية والمغربية؛ كما عملت تحت إشراف وزارة التربية الوطنية الفرنسية، لكنها قدمت استقالتها سنة 1947، احتجاجًا على عدم الأخذ بتوصياتها فيما كانت تشرف عليه من برامج متعلقة بتدريس اللغة العربية. ومنذ ذلك الحين، تفرغت ماسون للنشاط الفكري، فكتبت العديد من المقالات وترجمت القرآن الكريم، وظلت على هذا المسار حتى وفاتها عن عمر يناهز 93 عامًا.

استرجعت دونيز ماسون في كتابها “باب مفتوح على حديقة مغلقة” حقبة غنية من حياتها امتدت لستين عامًا بمدينة مراكش، مستعرضةً مراحلها الثقافية والفكرية. في القسم الأول من الكتاب، سلطت الضوء على الأجواء التي عايشتها خلال فترة الحماية الفرنسية، مقدمةً وصفًا دقيقًا للعلاقات الثقافية بين مختلف المجتمعات والحوار بين الإسلام والمسيحية. بينما فتحتْ في القسم الثاني الباب على حديقة سرية من الذكريات الشخصية، مرفقة بتفاصيل معاناتها وتحدياتها التي شكلت مسارها الفكري والثقافي.

قبيل وفاتها أوصت دونيز ماسون بأن يتحوّل الرياض الذي أقامت فيه منذ سنة 1938 إلى مؤسسة دونيز ماسون، بهدف تخليد إرثها الفكري وتشجيع التبادل الثقافي بين فرنسا والمغرب، باستضافة الفنانين والمفكرين العاملين على تعزيز الحوار بين الأديان. وأصبح الرياض اليوم يُعرف بـ”دار دونيز ماسون”، أو “بيت الحوار بمراكش”.

اهتمام بالتصوّف وترجمة للقرآن

أثرت دونيز ماسون مجال الترجمة من خلال نقل القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية ونُشرت ترجمتها لأول مرة سنة 1967؛ لم تقتصر فيها على مجرد نقل المعاني، بل سعت إلى الحفاظ على جمال النص القرآني بأبعاده الروحية. لم تحاول ماسون تفسير القرآن من منظور غربي بحت، وإنما سعت إلى تقديم معانيه، مع احترام خصوصية اللغة العربية ودقتها. وقد نالت ترجمتها إشادة واسعة من المتخصصين لما تميزت به من احترام لجوهر النص. ومع ذلك، لم تسلم ترجمتها للقرآن من الجدل، فقد انتقدها البعض بسبب الْتزامها الحَرْفي، بينما أثنى آخرون على نزاهتها الخالية من أي تحيّز ديني. أخذا بالاعتبار الرأيين معا، أكّدتْ ماسُون، غير ما مرة، أن هدفها من هذه الترجمة لم يكن التبشير أو الدفاع عن عقيدة معينة، بقدر ما كان همها الفكري هو إلقاء الضوء وتعزيز التفاهم بين العالمين المسيحي والإسلامي.

شكّل اهتمامها بالتصوّف والعلاقة الروحية بين الإسلام والمسيحية مرتكزًا جوهريًا في تطوّر رؤيتها الفكرية، إذ أضاءت جوانب غير متوقعة من التقاطع بين الديانتين، مما أسهم في صياغة تصورها بمنهج متكامل يجمع بين البعد التأملي والبحث المعرفي.

كانت ماسون، في كل ما أبدعته، تدعو إلى التفاهم والتسامح، مستندة إلى إيمان راسخ لديها لا يهتمّ بالدين باعتباره وسيلة للفرقة والانقسام، بل بوصفه منبعا للوحدة والتآخي بين الأديان والثقافات على اختلافها.

ظلّت ماسون مسيحية مخلصة لإيمانها، تمارسه بروح منفتحة، متحرّرة من قيود التعصّب، إذ أغنت عقيدتها بحوار مُستمر مع الإسلام وسائر التقاليد الروحية. ولم يتوقّف قلمها عن الكتابة حتى في سنواتها الأخيرة، حيث تعكس رسائلها ومذكّراتها، فضلاً عن أفكارها غير المنشورة، ثراء تجربتها الروحية والفكرية.

تُشكّل أعمالُها، التي لم تحظَ بعدُ بدراسة وافية، كنزًا ثمينًا للباحثين المهتمين بالدراسات العربية والإسلامية؛ رحلت ماسون عن هذه الدنيا، مخلفةً إرثًا فكريًا وروحيًا عميق الأثر، جديرًا بمزيد من البحث والتأمل.

نموذج رائد في الفكر الاستشراقي المعاصر

تعتبر ترجمة دونيز ماسون للقرآن الكريم من أبرز الأعمال التي تميزت بالدقة والعمق الثقافي والديني. أنجزت ماسون ترجمةً للقرآن، متحرّيةً الدقة في نقل معانيه، مع الحفاظ على جماليات اللغة العربية دون إخلال بثرائها الدلالي. امتازت ترجمتها بمحاولة غير مسبوقة للحفاظ على الأسلوب البلاغي للنص القرآني، مما جعلها تتفرد عن كثير من الترجمات الأخرى التي انصبّ اهتمامها على المعنى الحرفي دون مراعاة جماليات اللغة.

كانت ماسون تؤمن بأن فهم القرآن يستوجب مراعاة سياقه التاريخي والثقافي، ولذلك اجتهدت في تقديم آياته الكريمة بأسلوب يمكّن القارئ الغربي من إدراك أبعادها الروحية والدلالية، مع الحفاظ على ما تنطوي عليه من تعقيدات لغوية ودلالات عميقة. من هنا، اتسمت ترجمة دونيز ماسون للقرآن باحترامها العميق لطابعه الروحي، إذ لم تقتصر على النقل الحرفي للمعاني، بل تعاملت مع النص بوصفه كلمات تنبض بالحياة، حاملا رسالة إيمانية تتوجه إلى العقل والقلب على حد سواء. هكذا، سعت ماسون إلى إبراز روح النص القرآني بلغة فرنسية تجمع بين الدقة في المعنى وجمال الأسلوب، مستلهمة البلاغة التي يتميز بها النص العربي.

كما حرصت ماسون، من جهة أخرى، على تحقيق التوازن بين الأمانة العلمية وروحانية النص، فلم تسقط في فخ الترجمة الجافة التي تقتل الجماليات البلاغية، ولا في الاسترسال العاطفي الذي يضعف الدقة، مما جعل قراءتها للنص القرآني تجربة تلامس وجدان القارئ وتجذب اهتمامه، بغض النظر عن خلفيته الثقافية أو الدينية.

تعتبر منهجية دونيز ماسون في ترجمة القرآن إحدى المحاولات الأكاديمية التي سعت لتجاوز التحديات التي تفرضها خصوصية النصوص الدينية من حيث لغتها ومعانيها المتعددة. حرصتْ ماسون في عملها على مراعاة الحساسية الدينية والثقافية للقراء، فكانت منهجيتها تقوم على الجمع بين الدقة اللغوية والفهم العميق للبعد الثقافي والديني للنص القرآني. من هذه الزاوية، أكدت ماسُون في دراساتها على ضرورة أن يكون المترجم واعيًا بتأثيراته الفكرية والروحية عند نقل النصوص المقدسة من لغة إلى أخرى، لذا تبنت مقاربة تتجنب التفسير الشخصي وتحترم النص في سياقاته المختلفة. وبذلك تبنت منهجية تراعي العلاقة الوثيقة بين الترجمة والمعنى الديني، مشددة على ضرورة الالتزام بأعلى درجات الأمانة الفكرية والأدبية في هذا النوع من الأعمال الترجميّة.

بهذا الخيار، قدّمت دونيز ماسون نموذجًا مبتكرًا في الفكر الاستشراقي المعاصر، حين استطاعت أن تمزج بين نُبْل الباحثة وشفافية المترجمة، مما جعلها تتفرد بتقديم تصور جديد لدور الترجمة في تشكيل العلاقات الثقافية. في هذا السياق، يبرز إرثها الفكري بمثابة دعوة للتفكير في الترجمة باعتبارها أفقا حيويًا يعبر عن التفاعل الثقافي بين الأمم، وفضاءً مشتركًا يعكس إمكانيات التفاهم الإنساني الذي يتجاوز الحواجز الثقافية واللغوية، ويعيد صياغة العلاقة بين الشرق والغرب على أساس من المعرفة والاحترام المتبادل.

لقد تجاوزت دونيز ماسون، في تقديري، الحدود التقليدية للاستشراق، فبدلاً من الوقوف عند التصورات الأحادية والأنماط الثابتة التي سادت في دراسات الاستشراق الكلاسيكي، سعت إلى إعادة تمثل هذه الرؤى عبر تقديم تصوّر يتسم بالتعددية والتفاعل الثقافي، من خلال اعتبارها الترجمة أداة لتخطّي الحواجز التي قد تقيمها اللغة والثقافة بين الشعوب.

استطاعت ماسون، من خلال إعادة التفكير في دور المترجم، أن تفتح أيضا أفقًا جديدًا لفهم العلاقة بين الثقافات. فقد اعتبرتْ الترجمة وسيلة لتجاوز الصور النمطية التي طالما اعترت فكرنا عن الآخر، ممهّدةً الطريق أمام قراءة أكثر توازنًا لتاريخ التفاعل بين الشرق والغرب؛ وبذلك جعلت ماسون من المترجم وسيلة لفهم الآخر، من غير الوُقوع في فخّ التفسيرات المسبقة، مما ساهم في تشكيل رؤية أكثر إنسانية وواقعية لهذا التّفاعل المُعقّد.

لنتأمل؛ وإلى حديث آخر.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق