خلال متابعتي للحوار الثري الذي أجراه المصرفي البارز هشام عز العرب، الرئيس التنفيذي للبنك التجاري الدولي مصر (CIB)، مع الإعلامية المتميزة صبا عودة في برنامج "حديث مع صبا" على قناة "الشرق"، لفت انتباهي طرحه لقضية محورية طالما نادى بها، كما أكّدتُ على أهميتها في كتاباتي على مدار سنوات، وهي ضرورة تحديد هوية اقتصادية واضحة وثابتة للدولة المصرية، باعتبارها الأساس الذي لا غنى عنه لتحقيق الاستقرار الاقتصادي والتنمية المستدامة.
"عز العرب" أكد أن التحدي الحقيقي الذي يواجه الاقتصاد المصري لا يكمن في نقص الكوادر البشرية أو التمويل، بل في غياب رؤية اقتصادية موحدة ومستقرة، مشيرًا إلى أن الدول التي حققت نجاحات اقتصادية كبرى لم تترك اقتصادها دون توجه واضح، بل تبنّت نماذج اقتصادية محددة مثل النموذج الصيني أو السنغافوري أو الأمريكي أو البريطاني، وهو ما مكّنها من تحقيق نمو مستدام وجذب الاستثمارات بكفاءة.
هذه الرؤية تعكس حقيقة أساسية، وهي أن مصر تحتاج إلى نموذج اقتصادي يعبر عن هويتها، ليصبح بمثابة دستور اقتصادي ثابت يوجّه السياسات والتشريعات، بحيث لا يكون خاضعًا لتغيّرات الحكومات أو القيادات، بل يمثل التزامًا طويل الأمد بالاستراتيجية الاقتصادية للدولة، خاصة وأن التقلبات التي شهدتها التوجهات الاقتصادية خلال الفترات الماضية، نتيجة تغيّر السياسات مع تغيّر صناع القرار، أدت إلى إهدار الجهود، وتضارب السياسات، وعرقلة جذب الاستثمارات، وإبطاء وتيرة النمو، وهو ما يستوجب معالجة ذلك بوضع رؤية اقتصادية واضحة ومستقرة تضع مصر على المسار الصحيح نحو التنمية الحقيقية.
وفي الواقع فإن التحديات الاقتصادية التي تواجهها مصر، تؤكد أن تحديد الهوية الاقتصادية للدولة وإقرار دستور اقتصادي يجب أن يكون ضرورة استراتيجية لا يمكن تأجيلها، خاصة وأن تعاقب الحكومات وتباين الرؤى بين صناع القرار، يصبح وضع إطار اقتصادي ثابت وملزم أمرًا لا غنى عنه، بحيث يكون النهج المتبع موضع النقاش والتطوير، بينما يظل الهدف الأساسي ثابتًا ومحددا في بناء اقتصاد قوي ومستدام قادر على المنافسة عالميًا وتحقيق رفاهية المواطنين.
وقد أظهرت التجارب -ومنها واقعنا- أن غياب هوية اقتصادية محددة يؤدي إلى تشتت الجهود وتضارب القرارات، حيث تُتخذ سياسات قصيرة الأجل دون مرجعية واضحة، مما يضعف القدرة على تحقيق تنمية مستدامة، في حين أثبتت التجارب الدولية أن الدول التي وضعت استراتيجيات اقتصادية واضحة واستمرت في تنفيذها، استطاعت تحقيق قفزات تنموية كبرى، مثل كوريا الجنوبية التي انتقلت من الفقر إلى كونها قوة صناعية وتكنولوجية، والإمارات التي تحولت من اقتصاد ريعي يعتمد على النفط إلى مركز مالي وتجاري عالمي، وغيرها الكثير من التجارب.
كما أن إقرار دستور اقتصادي لمصر سيضمن وجود خارطة طريق طويلة الأمد تُلزم جميع متخذي القرار على تعاقبهم، مما يحد من العشوائية والتخبط في القرارات الاقتصادية، كما أن ذلك من شأنه تعزيز ثقة المستثمرين، سواء المحليين أو الأجانب، الذين يبحثون عن بيئة أعمال مستقرة، حيث يعرفون القطاعات التي سيتم التركيز عليها والسياسات التي ستحكم استثماراتهم على المدى الطويل، وهي مسألة أساسية في توجهات المستثمرين الذين يتفادون غياب الاستقرار الاقتصادي الذي يؤدي إلى حالة من الضبابية.
ناهيك عن أن تحديد الهوية الاقتصادية سوف يساهم في توجيه الموارد بكفاءة، سواء كانت طبيعية أو بشرية، خاصة وأن الدولة المصرية تمتلك إمكانيات هائلة في مجالات متعددة، مثل الزراعة الحديثة، والتصنيع، والتكنولوجيا، والطاقة المتجددة، لكن الاستفادة الفعلية من هذه الإمكانيات تتطلب تحديد أولويات واضحة وآليات دعم فعالة لهذه القطاعات، وهو ما سوف يعمل على تحقق الاستدامة المالية وتقلل المخاطر الاقتصادية.
وقد أظهرت التجارب السابقة أن غياب الخطط البديلة والتعامل العشوائي مع الأزمات يؤدي إلى نتائج كارثية، كما حدث خلال جائحة 2020، حيث وجدت الدولة نفسها في موقف صعب بسبب غياب استراتيجية واضحة لإدارة الأزمات الاقتصادية، في حين أن الدول الناجحة لا تعتمد فقط على وضع خطة أساسية، بل تمتلك خططًا بديلة وآليات استجابة سريعة، وهو ما يجب أن يكون جزءًا من أي دستور اقتصادي يتم وضعه لمصر حتى تكون خطط التعامل مع التقلبات واضحة.. تلك التقلبات التي تظهرها أيضا دورات العجز والفائض في الطاقة مرورا من قلة طاقة التوليد الكهربائية إلى سد العجز بفائض كبير من المحطات الجديدة وصولا إلى تحول مصر من مصدر للغاز الطبيعي إلى مستورد في غضون سنوات معدودة.
أعلم أن البعض قد يظن أن الحديث عن الإدارة الاقتصادية بهذا الشكل هو مجرد تنظير أكاديمي، لكنه في الواقع قاعدة أساسية لنجاح أي دولة، فالاقتصادات القوية ليست نتاج قرارات فردية متغيرة، بل هي انعكاس لالتزام طويل الأمد بمبادئ التخطيط الاستراتيجي والإدارة الرشيدة، كما أن الدول التي حققت نجاحات اقتصادية كبرى لم تفعل ذلك عبر حلول سحرية خارج الصندوق، بل ببساطة احترمت القواعد العلمية في الإدارة الاقتصادية، ووضعت رؤى واستراتيجيات محكمة، والتزمت بها لسنوات.
كما أن البعض كذلك قد يرد بأن الدولة تمتلك بالفعل خططًا واستراتيجيات واضحة، لكن الأمر -في تقديري- لا يختلف كثيرًا عن مفهوم "الشبهية" الذي طرحه الراحل صلاح السعدني، حيث تبدو المظاهر شبيهة بالنماذج العالمية، لكنها تفتقر إلى الجوهر الحقيقي. نعم، هناك حديث عن التخطيط، لكن دون أدلة واضحة على تنفيذه الفعلي.. نتحدث عن "رؤية 2030"، لكنها تفتقر إلى الاتساق وتتعرض للتعديل باستمرار، ونسمع عن "إصلاحات هيكلية" وبرامج اقتصادية، لكنها لا تُترجم إلى تغييرات ملموسة، لنكون في النهاية أمام مجرد تشابه مع المفاهيم الحقيقية، وحين نطالب بالتخطيط الفعلي، يكون الرد بأن هذه الخطط موجودة أو أنها جُرّبت من قبل ولم تفلح، رغم أنها لم تكن حقيقية من الأساس بما يدفع إلى الرضوخ لنهج التجربة العشوائية وإدارة الأمور يومًا بيوم، دون دراسة فعلية لنتائجها.
ختامًا، لا سبيل لتحقيق تقدم اقتصادي حقيقي دون هوية اقتصادية ثابتة ومستدامة، قد يختلف فيها صناع القرار على آليات التنفيذ، لكن لا يمكن أن يكون هناك اختلاف على ضرورة وجود إطار اقتصادي شامل يوجه السياسات، ويضمن استقرار المسار، ويضع معايير واضحة للتقييم والمحاسبة، لأنه بلا شك لم يحقق الرهان على الاجتهادات الفردية والسياسات المتغيرة سوى المزيد من الأزمات، وبالتأكيد لا يورث البحث المحموم عن "حل" سريع لمشاكل "هيكلية" إلا الانخراط فيما يسميه الخبير الاقتصادي المرموق د. محمود محي الدين بالافكار السيئة، التي نستحضرها حينا ونجترها حينا فلا نجد منها نفعا ولا بها خلاصا بل العكس تماما فهي تزيد التعثر.
بينما الحل الحقيقي الذي قد يظنه الكثيرون مملا أو تقليديا أو لا يشذ عن الصندوق، يكمن ببساطة في تجاهل " الوصفات الساذجة البهلوانية" وتبني نهج علمي في إدارة الاقتصاد، والالتزام باستراتيجيات مدروسة، والتحول من الإدارة اليومية إلى التخطيط بعيد المدى وفقا لهوية واضحة ومعلنة، فالمسألة ليست في الخروج عن الصندوق لمجرد المغامرة، بل في بناء صندوق متين يستوعب التحديات، ويوفر اقتصادا متماسكا ذا هوية واضحة بحيث يكون قادرا على مواجهة العواصف دون أن تقتلع جذوره أول ريح عاتية.
0 تعليق