هذه وثيقة عمرها 12 عاما، كتبها الشاعر ممدوح فوزي عن العلاقة القوية التي ربطت بينه وبين الشيخ ياسين التهامي، وكشف من خلالها العديد من أسرار شيخ المنشدين.
وإذا كان الشيخ ياسين التهامي أوصى ممدوح فوزي بكتابة بيت من الشعر على قبره حين يرحل عن الدنيا، فإن القدر لعب لعبته ومات ممدوح فوزي (قبل عامين) في مفاجأة مدوية لكل أصدقائه وأحبائه في الوسط الثقافي والفني، في حين ظل مولانا التهامي على قيد الحياة، بارك الله لنا في عمره .
مات ممدوح وترك هذه الشهادة التي ينشرها موقع تحيا مصر في اليوم الأول لشهر رمضان المبارك، ويهديها لكل عشاق جبل الورد، الشيخ ياسين التهامي، ولأحباب الشاعر ممدوح فوزي.

كتب ممدوح فوزي يقول: لأن ما أكتبه عن الشيخ ياسين التهامي خاصٌ وشخصي فقد تطلب ذلك أن أستأذنه .. فقال لي: كل ما تقوله لك أو عليك ... فقل ما شئت ... ولا أُنكر السعادة التي غمرتني حين صرّح لي بذلك لكنني حين شرعت في الكتابة تمنيّت لو أنه لم يصرّح لي بذلك لأنني أدركت أني ألقيت بنفسي في بحرٍ لم أدرك مداه علي رأي المثل العربي القديم ( جنت علي نفسها براقش ).
كتبت هذه الشهادة أربع مرات وكل مرة ليست كسابقها وكل ما كُتبته لا يوفي هذا البديع حقه ولا يدرك من قدره شئ.
جبل الورد
يقف ياسين التهامي بين أهل الغناء كـ جبلٍ من ورد فهذا المُرتجل العظيم الذي يرتجل موسيقاه دون إعداد مسبقٍ أو تحضير حالة الفيض النوارني، فهو الذي إبتدع طريقة للغِناءٍ لم يسبقه فيها أحد بل وزاد عليها، التحدي العظيم في اختياره لقصائد من هذا النوع الذي يتغني به فقد بدأ مشواره بشعر ابن الفارض، الشاعر الصوفي القديم صاحب اللغة الرصينة والتي تحتاج إلي مثقفً من طراز رفيع ليدرك معاني كلماته، رغم أن ياسين بدأ الإنشاد في مجتمعٍ تغلب عليه الأميّة.

ياسن التهامي وجمال الغيطاني
أتذكر الأن سؤال طرحه عليه أديبنا الكبير الأستاذ جمال الغيطاني في حوار قديم أجراه معه سأله: من أين هذا التواصل بينك وبين جمهورك الذي يحفظ قصائدك عن ظهر قلب رغم أن أغلب هذا الجمهور أُميٌ لا يعرف القراءة فقال له ياسين إن علاقته بالناس لا تعتمد علي الفهم قدر ما ترتكز علي الإحساس فقد نفهم ما يُقال وندرك معناه دون أن نصل إلي إحساسه، ولكننا حين ندرك إحساس الأمر ندرك روحه ولا حاجة للفهم حين نبلغ ذلك، فالفهم لغة العقل، والإحساس لغة الروح وأنا لا أخاطب العقل فالعقل محدود وفيه نواقص أما الروح سر لا يدركه بشر إلاّ بحسه وأنا أخاطب هذه الروح.

قصة الشيخ ياسين التهامي مع علبة المسقعة
وأمام هذا الجبل لابد من إدراك مسلك حتي لا تتشعب طرق الحديث، وأنا مسلكي في هذا الجبل خاص وبعيد عما أدركه الناس في ياسين التهامي وأول خطوة أبدأها في هذا الدرب هي "علبة المسقعة" حين كنا نفطر وحدنا، وعندما انتهينا من إفطارنا لملمت ما تبقي من الطعام لألقيه في "السلة"، فأمسك بيدي وسألني هل ما تزال هناك بواقي صالحة دتخل علبة المسقعة؟، فقلت نعم. قال: هل تعلم أن هناك من يموتون من الجوع ولا يجدون هذا الفتات ؟.. قلت: نعم قال: فماذا ستقول لربك حين تلقي نعمة وهي صالحة؟.. وهل هذا من الشكر لله علي نعمهِ حينها أدركت وضاعة فعلي وجلال روحه.

الشيخ ياسين التهامي يفسر آية من القرآن
صمتُ صمتاً لم أبلغه في حياتي إلاّ حين كنا عائدين من حفلة أظنها كانت في مولد الإمام الشافعي وعندما دخلنا البيت أمسك الشيخ بعمامته الضخمة الأنيقة وألقاها علي الأرض وقال لي في لهجة صعيدية حادة مشحونة بنورانية: "عليّ الطلاق ربنا ما هيحاسب حد يوم القيامة" فقلت: خير وبركة.. حد طايل.. يا ريت، فرد عليّ موضحا إن الله سيكون في جلسة من الود مع النبي وكلٌ منا سيحاسب نفسه ألم يقل "إقرأ كتابك كفي بنفسك اليوم عليك حسيبا".

يالهذا الرجل من أفعال تصغر أمامها الدهشة فحين أهداه أمير عربي سيارة فارهة، صمم علي بيعها وحين سألته عن السبب فقال لي: "إزاي هدوس برجلي علي مليون جنيه والناس ماشية في الشارع يمكن مش معاها تمن كيلو لحم الرحمة يا سيدنا فوق العدل وفوق الحق كمان"
ياسين التهامي والوفاء بالوعد
ويحضرني الأن مشهد له حين كان مريضاً ولديه رشح وزكام ودرجة حرارته تجاوزت التسعة والثلاثين درجة مئوية وكان لديه حفل في الإسكندرية فرجوته أن يلغيه رأفة بحاله، فقال لي: والله لو هاروح علي عكاز لن أخلف موعداً قطعته علي نفسي فما ذنب أصحاب الفرح بمرضي فسافرنا للأسكندرية وكان طول الطريق نائم علي قدمي وجسمه يرتعش من السخونة ولكننا حين وصلنا إلي مكان الحفل إنطلق كمهرٍ جامح فأمسكت بجلبابه وأنا بجواره علي المسرح وطلبت منه أن يهدأ قليلاً فقد لا يتحمّل بقية الوقت بهذا المجهود لكنه رد عليّ بجملة لن أنساها ما حييت حين قال والله لو أخر ... آهةٍ في صدري لأقولها ...

لا غرابة في أمر رجل كل ما فيه غريب، ولا أظن أن التاريخ يستطيع تجاوز هذا الفنان النادر الحدوث فهذا الشيخ الذي كثيراً ما أذهلني بشطحاته الفكرية وعبارات عميقة المعني هو الذي لم يترك لي غير إرثٍ من الجمال لا زالت تقتاد منه الروح حتي أني كنت أدون ما يقوله ولم أعرف قيمة ما فعلت إلاّ حين أردت الكتابة عنه.
وصية ياسين التهامي
قال لي: إصبر فالصبر درب المأمول، كان يزرع في نفسي شجر الغد وبساتين القادم، وحين قال لي إن الله لم يقصد من خلقه الناس إلاّ إثبات لذاته، وما كان الوجود إلاّ شهود المعبود وأن الجنة والنار ما هي إلاّ أبدية الصفات فنحن خليفة الله ومثاله نتنقل بين صفاته بمحدودية بشرية فكل منا يكون كريم ويكون عليم وحليم وكل منا خالق وبديع وفي مسيرة التنقل بين الصفات يبقي فينا صفة أصل يدركها الغير ويشهد بها وحين ننتقل من عالم الوجود إلي عالم الخلود سيكون عقابنا وثوابنا صفاتنا التي تحلينا بها فكل جبار سيعذب بصفة الجبار الآبدية وكل كريم سينعم بصفة الكريم الآبدية ... ولم يترك لي أمر دون وصية أو نصيحة فقد أوصاني أن أكتب علي قبره: "أنا من قصت الخطوب جناحي ... وأختفي نجمي ومات صباحي".

0 تعليق