في كل أسبوع تحاصرنا تلك اللوحة البلاستيكية الطويلة العريضة، التي تشعرك أنك تتابع مقابلة في كرة القدم من ملعب البشير بالمحمدية… عرف العالم المدينة وملعبها بتلك اللوحة التي كتبت باللغتين العربية والفرنسية، لنحيط العالمين برا وبحرا بإيماننا القوي بطموحاتنا… رغم أن فريقنا لم يفز ولو بمباراة واحدة… وهو في الدرك الأسفل من ترتيب الدوري…
تشدك اللافتة إليها بقوة، كأنها أم حنون ترغب في أن تفرغ كل حنانها دفعة واحدة في طفلها الذي لم يتجاوز شهره الأول… تخنقه… تشل حركته… يذوب داخل قماطه القطني… ينسى جمهور الشاشة، داخل وخارج أرض الوطن، أجواء المباراة… راغبا في فك حصار اللوحة… “ديما شباب… النادي الرياضي لشباب المحمدية… نؤمن بطموحاتنا…”.
تجسد هذه اللوحة إبداع أبناء هذه المدينة الحالمة على شاطئ محيط الظلمات… فاستنشقت ظلمه وجبروته… يغازلها واد النفيفيخ والواد المالح، راسمان دمعتين حارقتين تشهدان على أن زمن الزهور قد ولى عن مدينة الزهور… تذكرني هذه المدينة بحكاية الجميلة والوحش… إلا أن قصتها أكثر حزنا وألما من قصة الجميلة… فإذا كان للأولى وحش واحد… فلهذه المدينة ألف وحش…
“ديما شباب”… يقال إن الحكمة البلهاء، والكلام الشاعري يولدان زمن الانحطاط… حين يرحل كل جميل… حين تختنق داخل كل واحد منا نشوة الفرح… حين يقهر الجشع مشاعرنا النبيلة… حين تصاب أصابعنا بالشلل، فتصبح عاجزة عن رسم إشارة النصر… حين نتجرع مرارة الانكسارات داخل ذواتنا… فنتحول إلى شعراء يبكون الأطلال… يكتبون لافتات طويلة عريضة بكل لغات الأرض… “نؤمن بطموحاتنا”…
كم نحن أغبياء حين نزرع الريح وقت الهجيرة… ونروي عطشنا الأبدي بزبد بحري… ونرقص في المآتم رقصة الديك المذبوح… ونبيع قدرنا بدراهم معدودات، فنكون فيه من الزاهدين… وننتظر على قارعة الطريق من أسياد الدائرة… من تخطوا العتبة… من رحمهم القاسم الانتخابي… فيقسمون لنا على لافتة…”نؤمن بطموحاتنا”… أن الخير قادم على صهوة جواد جامح… فانتظروا الساعة…
“ديما شباب”… كبرت معنا من الزمن الجميل، حين كنا صغارا نعبر الخلاء الخلفي لملعب البشير ركضا… ننظر “العباسية”… ونتلدد بعد نهاية المقابلة بالحكي عن أطوار تلك الدقائق المعدودات التي فزنا بها خلسة، وكأنها دهرا… قذفات أحمد فرس… ارتماءات الطاهر الرعد… مراوغات عسيلة بيسراه… قتالية كلاوة… ما أروعكم يا صناع مجد شباب المحمدية…
في زحمة المدينة المنسية… كبرنا وكبر الجيل الذهبي… وسافرنا سويا عبر دروب الحياة… تجاذبنا أطراف الحديث وحواشيه، وكل ما تبقى تائها في ذاكرتنا المثقلة بغبار الزمن… الحاج الطاهر الرعد رحمه الله… جبل من الصمت… يشعل داخلك الرغبة في أن لا ينتهي صراخه الصامت… غيرة على المدينة وعن قريتي “اللويزية”… الحاج أحمد فرس… شافاه الله… كلام من ذهب… الإنصات إليه متعة… تشعر أن الرجل خلق لزمن آخر… ابراهيم كلاوة… يرحل بك في حكيه إلى الزمن الجميل… ذلك الزمن الذي تاه بين حطام ذواتنا… فيشعرك أنك في سفر روحي بين فصول حكايات ألف ليلة وليلة…
“ديما شباب”… عادت بي الذاكرة إلى أواخر السبعينات وبداية الثمانينات… كانت المدينة الحالمة تعرف نهاية كل أسبوع مباريات في ساحاتها الممتدة من ملاعب فضالة سبور وسطرافور مرورا بروباما وملعب لفياسون، وعلى طول شاطئ الدريجات، وغيرها من الساحات، حيث كانت المباريات تشعرك بأنك تتابع معزوفات من روائع موسيقية عالمية… وحين يحل شهر رمضان… فلا مكان لك بملعب العالية إذا لم تبكر بالقدوم… فكل أحياء المدينة تتحول إلى منتخبات من العيار الثقيل… ديور القراعي… درب مراكش… درب جميلة… دوار جاجا… البرادعة… ديور لكرم… واللائحة طويلة… لقد كان الجميع يؤمن بطموحه… شريطة أن يزكيه ذلك الرجل الطيب با عبد القادر رحمه الله.
“ديما شباب”… ما أروعك أيتها اللافتة… ليس بما تحملينه من أحلام وطموحات الأجيال القادمة… ولا بحجم التفاؤل الذي نعيش به كنسيم الصباح الباكر… ولا بألوانك التي تسكن أبناء المدينة… ولكن لأنك تخفين عيوب الأولين والآخرين… هكذا أخالك وشاحا يستر وجها قبيحا غير مألوف… كم أنت رائعة بامتدادك على طول واجهة ملعب البشير… تجملين المشهد… تمسحين خطايا القوم… وتعبثين بأحلام صغارنا… كم أنت جميل وشاعري أيها الكذب… وكم نتلدد بطعمك الزائف… فقط لأننا… “نؤمن بطموحاتنا”…
0 تعليق