يُعدّ الخطاب الزجري الذي يكرّره بعض الآباء والأمهات على مسامع أبنائهم، عقب حدوث تصرفات غير لائقة داخل منازلهم، علامةً على انشطارٍ مفاهيمي عميق بين الفضاء الخاص والعام. إِذ أنَّ العبارة الشهيرة “واش كيحساب لك راسك فالزنقة؟” ليست مجرد تقريعٍ عابر، بل اختزال دقيق لفجوة سلوكية وذهنية متجذرة في المجتمعات (حتى الغربيّة منها) التي تشهد تناقضًا صارخًا في تمثل الأفراد للأمكنة والفضاءات.
فلماذا ينزاح السلوك البشري عند البعض، لحظة الانتقال من المجال الخاص إلى العام، إلى الانفلات والتسيّب؟ ولماذا ينظر هؤلاء إلى الشارع كمساحة للتحلُّل من الضوابط التي تحكم سلوك الأفراد داخل البيوت؟ وكيف تسهم البُنى المجتمعية والتمثلات الذهنية في شرعنة هذه الممارسات حتى باتت مقبولة لدى الكثيرين، رغم ما تحمله من تناقضات صارخة؟
الشارع كمكبّ للنفايات
من الممارسات التي تثير الامتعاض وتكشف في آنٍ واحد عن الخلل القيمي المرتبط بالمجال العام، عادة إلقاء النفايات في الشارع، وكأنّ الأرض مجرد مُسطّح بلا هوية، بلا ذاكرة، بلا انتماء. نرى أشخاصًا يلقون نفاياتهم وكأنها ستختفي تلقائيا بمجرد أن تسقط من أيديهم… فمنهم من يفرغ محتوى جيبه في قارعة الطريق كأنما يتبرأ من ذنب شنيع، ومنهم من يرمي أعقاب السجائر على الرصيف، بينما يترك آخرون بقايا طعامهم على المقاعد العمومية، على مقربة من حاوية الأزبال!
لكن المفارقة العجيبة أن هؤلاء أنفسهم يرفضون هذا الفعل في بيوتهم، حيث تبدو القمامة عنصرًا دخيلا، شيئًا منفّرًا يجب التخلص منه بطريقة منظمة. أما في الشارع، فإن مفهوم “المسؤولية الفردية” يختفي ليذوب في مفهوم أوسع وأخطر: “ما دام الجميع يفعلها، فلماذا أكون الاستثناء؟”
هذا المنطق يعكس رؤية بنيوية تجعل المجال العام مساحة غير شخصية، مملوكة للجميع نظرّيا، لكنها ليست موضع رعاية فعليّة من أيٍّ كان. وبهذا المعنى، يصبح الشارع مطرحا لا مرئيًا للفظ كل ما هو غير مرغوب فيه، سواء كان ذلك قمامة مادية أو حتى سلوكيات متدنية.
وفي الحقيقة، هذه المشكلة الهيكلية بالذات ليست حكرا على بعض المدن المغربية فقط؛ ففي فرنسا، أكثر من ربع المواطنين يقرون بإلقاء نفاياتهم من نوافذ سياراتهم، وفي إيطاليا، تكافح صقلية ضد النفايات رغم تشديد القوانين، أما في بلجيكا، فالجهود مستمرة لمكافحة التخلص غير القانوني من النفايات، بينما الوضع في إفريقيا جنوب الصحراء وباقي دول المغرب الكبير لا يخفى – تقريبا – على أحد.
ورغم المشاهد المُحزنة التي تعمّ بعض الشوارع على مستوى العالم، يقدّم المغرب مثالا يحتذى به في النظافة والحفاظ على البيئة – لا يمكننا سوى الإشادة به – حيث تظهر كثير من الشوارع والأزقة نظيفة على مدار اليوم، خصوصا في حواضر كانت في السابق تعاني من التناثر العشوائي للقاذورات.
الضوضاء.. قلة وعي وحسب؟
من المظاهر الأخرى التي تكشف هشاشة العلاقة بين الأفراد والمجال العام، ارتفاع معدلات الضوضاء في الشوارع. كيف نفسّر هذه النزعة الغريبة التي تدفع البعض إلى الصراخ أثناء الحديث عبر الهاتف في الأماكن العمومية؟ ولماذا يصرّ البعض على استعمال أبواق السيارات بطريقة هستيرية؟ ولماذا تتحول بعض الأزقة إلى مساحات مفتوحة للمشاحنات اللفظية والمجادلات العقيمة التي تصل أحيانًا إلى حد الاشتباك؟
الإجابة تتجاوز الطرح السطحي الذي يعزو الأمر إلى مجرد “قلة وعي”، بل ترتبط بعمق بتحولات نفسية واجتماعية تجعل المجال العام مساحة “منفلتة”، حيث يتم التحرر من الرقابة الذاتية التي تكون أكثر حضورًا داخل البيت. فالمنزل هو فضاء مُقنّن، تحكمه ضوابط عائلية أو شخصية صارمة، أما الشارع، فهو – من منظور الكثيرين – فضاءٌ حر، لا يخضع لسلطة واضحة المعالم، حسبهم، مما يسمح لهم بالتعبير عن أنفسهم بأقصى درجات العشوائية والفوضى.
وقد تسعفنا نظرية تسلسل ماسلو الهرمي للاحتياجات، إذ يعكس السلوك الفوضوي في الأماكن العامة محاولات الفرد للتعبير عن حاجاته الذاتية كالاحترام والتقدير، خاصة إذا شعر بأن هذه الحاجات لم تُلب في البيئات الأكثر تقييدًا كالعمل أو المنزل. بيْدَ أن هناك تفسيرات أخرى سوسيولوجية أكثر دقة وشمولية، سنتطرق إليها لاحقا في هذا المقال…
عندما يصبح الحائط والرصيف ضحية للاستهتار الجماعي
الكتابة على الجدران هي مظهر آخر من مظاهر استباحة المجال العام. على الرغم من أن بعض أنواع “الغرافيتي” قد تحمل طابعًا فنّيًا أو احتجاجيًا، إلا أن ما نراه في شوارعنا في الغالب هو مجرد عبارات عشوائية، أو كتابات عديمة القيمة، أو حتى شتائم وإساءات تحوّل الجدران إلى لوحة بائسة للفوضى البصرية.
لكن الأكثر إثارة للاشمئزاز من هذا الفعل هو عادة البصق في الشارع. تلك الحركة التي تبدو لكثيرين مجرد تفصيلة صغيرة، لكنها في الواقع تعكس مستوى مرعبًا من اللامبالاة. فالفرد الذي يبصق على الأرض لا يقوم فقط بفعل قبيح، بل يعبّر بشكل لا إرادي عن ازدرائه العميق للمجال العام، وكأن الشارع ليس مكانًا يستحق الاحترام، بل مجرد فضاء لطرح الفضلات الجسدية بلا حساب.
“امتهان” الفضاء العام.. هل لعلم الاجتماع أجوبة؟
خُلوُّ سلوكيات بعض الأفراد من الاعتبار الأخلاقي تجاه الفضاء المشترك له، بالتأكيد، تفسير سوسيولوجي. فحسب منظور البنيوية (structuralisme)، يتلقى الأفراد تعليمات مبكرة تصور المجال العام كفضاء يتبع للآخرين، لا يتطلب الالتزام الشخصي المماثل لما هو متوقع في الخصوصيات المنزلية. تترسخ هذه القناعات جيلا بعد جيل، مما يجعل النظافة داخل البيوت أمرا حتميا بينما تظل نظافة الشارع خيارا يتجاهله الكثيرون.
ومن منظور الفكر الوظيفي (fonctionnalisme) الذي نظّر له برونيسلاف مالينوفسكي وعلماء آخرون، تُعد هذه السلوكيات العامة مؤشرا على تراجع وظائف المؤسسات الاجتماعية في تعزيز القواعد الأخلاقية والسلوكية بين الأفراد. فالشخص الذي يرمي النفايات في الشوارع أو يدخن ويلقي بعقب السجائر على الأرصفة يكشف عن غياب الضمير الجماعي الذي يفترض أن ترسِّخه المؤسسات التعليمية والأسرية.
من جانبها، تُقدِّم النظرية الماركسية (marxisme) تفسيرا يركز على الصراعات الطبقية والاقتصادية كأسباب جذرية لهذا التصرف. فبناءً عليها، يمكن القول إن الفرق بين الأحياء الغنية والفقيرة ينعكس بوضوح في مستوى الاهتمام بنظافة الأماكن العامة؛ حيث يعتبر الأفراد في الأحياء المحرومة أن البنية التحتية والخدمات العامة لا تلبي احتياجاتهم، مما يؤدي إلى نزعة تمردية تظهر في إهمالهم لنظافة هذه الفضاءات.
أما إذا ارتدينا نظارة التفاعل الرمزي، النظرية الاجتماعية التي أسس لها جورج هربرت ميد، يمكننا فهم السلوكيات السلبية في الأماكن العامة مثل الصراخ أو التلفظ بالألفاظ النابية على أنها ناتجة عن تفاعلات اجتماعية تحمل معاني ودلالات تختلف باختلاف السياق الاجتماعي. فمن خلال هذه النظرية، يُنظر إلى السلوك البشري على أنه بناء اجتماعي يتشكّل من خلال التفاعل المستمر مع الآخرين.
وبالتالي، نجد أن الأفراد لا يولدون بمعايير ثابتة للسلوك، بل يتعلمونها من خلال التفاعل مع الآخرين في بيئاتهم الاجتماعية. وكل سلوك ينطوي على معنى يختلف باختلاف السياق الثقافي والاجتماعي الذي يحدث فيه، مما يجعل الألفاظ النابية والصراخ ليست مجرد ردود فعل عفوية، بل هي تفاعل اجتماعي يحمل معاني خاصة للأفراد في تلك اللحظات. يُعتبر الشارع، في هذا في هذه الحالة، مسرحا للتعبير عن الذات بطريقة خالية إلى حد كبير من الضوابط الاجتماعية التي تحكم السلوك داخل البيت.
ليس مجرد شارع!
ويبقى السؤال الجوهري قائما: كيف “نستعيد” المجال العام بوصفه فضاءً حضاريًا وليس مكبًّا للفوضى السلوكية؟
أعتقد جازما أن الحل لا يكمن في العقوبات القانونية وحدها، رغم ضرورتها، بل في تغيير التمثلات الذهنية التي تحكم علاقتنا بالمجال العام. يجب أن نكفّ عن اعتبار الشارع “مكانًا لا يخصّني”، لأن هذه العقلية هي الجذر العميق لكل هذه السلوكيات المنفلتة.
إن التغيير يبدأ من لحظة وعي، من إدراك بسيط لكنه محوري: الشارع امتدادٌ لبيتي، وليس مكانًا أمارس فيه ما لا أسمح به داخل جدراني. حين يصل هذا الإدراك إلى مرحلة الترسّخ، لن يكون هناك فارق بين نظافة المنزل ونظافة الرصيف، ولن نحتاج بعد اليوم إلى ترديد: “واش كيحساب لك راسك فالزنقة؟” لأننا سنكون قد أعدنا تعريف معنى الشارع نفسه.
0 تعليق